إلى أن نلتقـي


التضحية بين الحج والأضحية

من أطرف ما قرأت من طُرَف المغفَّلين أن أحد الأشخاص حينما أراد توديع أهله من أجل السفر لأداء فريضة الحج، بدأ أولاده يبكون قائلين له: أَلِفْناك أن تكون في العيد معنا، فقال لهم: لا تحزنوا سأكون عندكم قبل العيد.
ولعل طرافة هذه القصة تبدو أولاً في السبب الذي دفع الراوي إلى روايتها، وهو غفلة هذا القاصد للحج عن أمور الدين وعدم إدراكه أنه شرائع وشعائر، وأن ذروة سنامه بعد يوم عرفة هو يوم النحر ذاته، كما تبدو من جهة أخرى في نوازع النفس الإنسانية التي تحجز الإنسان عن التضحية بالنفس والمال. ومن هنا بقدْر ما كانت شعيرة الأضحية رمزا للتضحية والفداء، كانت شعيرة الحج أسمى وأعلى في التضحية، لما فيه من التضحية الفعلية بالنفس والمال، وكذلك من التضحية بفرحة العيد مع الأهل والأولاد والأحباب، في سبيل ابتغاء مرضات الله سبحانه وتعالى والعودة من تلك البقاع بطهارة تامة كحال الولادة أول مرة.
إن هذا العيد يرمز إلى كل معاني التضحية، طاعةً لله وإخلاصا له، وهي طاعة يُذكَّر بها بصلاة العيد أولا، ثم بشعيرة الأضحية ثانيا، ثم بالتكبير المستمر طيلة الأيام الثلاثة ثالثا. وطاعةُ الله جديرة بأن يُضَحَّى من أجلها بكل شيء، وما نَحْر الأضحية إلا رمز بسيط من تضحيات أخرى أكبر وأثقل.
وإن العيد بقدر ما هو فرحة وحبور ولقاء بالأهل والأحباب والأصدقاء والخلاَّن واجتماع بهم، هو تذكير باجتماع أو تجمع آخر، إنه تجمع الأمة، أمتنا الإسلامية التي اجتمع ممثلوها هناك في البيت الحرام وفي منىً وفي عرفات، تجمع الأمة التي انفرط عقدها بشكل كبير حتى غدا إعلامنا يتحدث عن أولى القبلتين وثالث الحرمين، كما يتحدث عن مناطق أخرى في جُزر “الواق واق”، ويتحدث عن المسجد الأقصى والقدس ومآسي إخواننا في فلسطين وإفريقيا ومينامار وغيرها من البلدان كما يتحدث عن السياحة في جزر “هواي”، أو عن مآسي الغِربان في متجمدات سيبريا.. ولذلك فإن اجتماع الحجيج على رُبى عرفات ليذكرنا حقا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر”، فهم هناك كالجسد الواحد، كلهم متوجهون إلى الله ذكراً وتلبيةً وتكبيراً ودعاء. فلماذا لا يُذكِّرنا العيد – ونحن بين أحضان أهلينا وذوينا – بما يقاسيه إخوان لنا هنا أو هناك؟ ولماذا لا يكون من معاني التضحية التي يرمز إليها “عيدنا الكبير” معنى الأخوة في الدين التي هي الرابطة التي تجمع أهل القبلة حيثما كانوا ووُجدوا؟ وهي المظلة التي تربطنا ببني الإنسان حيثما كانوا ووُجدوا أيضا.
إن عيد الأضحى الذي نستظل بظلال بركته وفضله في هذه الأيام، يجعلنا نتذكر بأنه ختامُ عبادةٍ، وتمامُ نعمةٍ، ومدعاةُ شكرٍ وذكرٍ، ومثَارُ تفكُّرٍ، وموطنُ عظةٍ، فهو يأتي في ختام فريضة الحج الذي هو ركنٌ ركين من أركان الإسلام؛ والحج عرفة، ويوم عرفة هو اليوم الذي يغفر الله تعالى فيه للمقبلين عليه ما أسلفوا من معصية، وما فرَّطوا في جنبِ الله، فلا يُرى الشيطانُ أخزَى ولا أذلَّ منه يومئذٍ.
فنسأل الله تعالى أن يتقبل من حجَّاج بيته حجَّهم وسعيَهم، وأن يتقبل من المُضحِّين أضحياتهم، وأن يلهمنا إدراك أبعاد معاني التضحية في شعيرتي الحج والأضحية، وندرك دروسها العميقة في قِيَم الإيثار والتعاون والبذل والعطاء والأخوة.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>