نحن أُمَّة اقْرأ، وبها نَفْخَر..


من بين ما كرَّم الله تعالى بهِ أمة الإسلام، أن جعلها أمة اقرأ، فكان أول ما نزل من الوحي كما هو معلوم، قوله تعالى: اقرأ باسم ربك . وبفضل هذا الفعل “الآمر” الدَّال بحكم حذف مفعوله، على أن فعل القراءة مطلق زمانا ومكانا ومادة، بدءا بقراءة الوحي وانتهاءً بقراءة كل علم مفيد، فقط بشرط واحد هو أن تكون هذه القراءةُ باسم الله الخالق الذي خلق كل شيء، أقول بفضل هذا الفعل “الآمر”، سادت أمة الإسلام سيادةً علمية قبل أن تسود في الأنواع الأخرى من السيادات السياسية والمالية والاجتماعية. وحتى حينما بدأت هذه السيادات السياسية والمادية تخبو، بقي نور السيادة العلمية ساطعا مضيئا لا تنطفئ له جذوة، فأضاء بذلك جميع العالمين على مدار التاريخ، كل ذلك بفضل “اقرأ”.
بفضل “اقرأ” مَلَك دين الإسلام القلوبَ، قبل أن يملك أيَّ شيء آخر من الأمور المادية، فتآلفت قلوب المسلمين وتوحدت على الإيمان: لَوْ اَنفَقْتَ مَا فِي الْاَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ، إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (الأنفال 64).
بفضل “اقرأ” بُنيت حضارة الإسلام بناءً علميا، بعيدا عن كل ما يتعلق بالخرافة أو الشعوذة، فكان العلماءُ في مقدمة من يخشى الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء (فاطر 28)، ومن ثَمّ كانوا الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر لا يخافون في الله لومة لائم.
بفضل “اقرأ” بُنيت حضارة الإسلام بناء قائما على العدل والمساواة، لا فرق فيها لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى.
بفضل “اقرأ” ساد المسلمون العالم سيادة حُب وإخاء وعدل ومساواة: إن أكرمكم عند الله أتقاكم (الحجرات 13) ، لا سياسة قهر وظلم وعدوان واستعباد، “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟”.
بفضل “اقرأ” كان كل شيء بناه الإسلام لصالح الإنسان… وكلُّ ذلك وغيرُه من الفضائل الحضارية تحقق حينما كان المسلمون على وعي حقيقي وإدراك تامّ لدلالة “اقرأ” .
لكن حين خبا نور “اقرأ” واضمحل في قلوب المسلمين، ساد الجهل والتقليد والتكرار والتخلف في كل شيء، حتى في الجانب التعبدي الخالص، وأصبح المسلمون غثاءً كغثاء السيل تتداعى عليهم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعة الطعام.
وإن من دلالات “اقرأ”، أنها لا تعني ما يُصطلح عليه اليوم بمحو الأمية – وإن كان ذلك مما يطلب من المسلمين، فقد جعل الرسول ، ثمن إطلاق أسرى بدر أن يعلم الواحد منهم عشرة من أبناء المسلمين – ولكن دلالة اقرأ فوق ذلك بكثير، وخاصة حينما تُربط بما بعدها، كما يتطلب ذلك السياق القرآني وسياق النزول.
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْاِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْاَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْاِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (العلق 1 – 5).
إنها القراءة العالِمة المتدبِّرة المتأملة العاقِلة المتفحِّصة الباحثة المدقِّقة المستحضِرة لرقابة الله تعالى وعظمته، المستسلِمة المنقادة له في كل شيء… إنها القراءة باسم الله وكفى.
ذلك أنها إذا لم تكن باسم الله ذهبت كل منافع القراءة وأصبحت وَبالاً على الإنسان ودماراً له، كما هو واقع القراءة في كثير من الأعصر الخالية، ثم في العصر الحالي خاصة:
فكم من “قارئ”، آمرٍ بالمنكر ناه عن المعروف، باسم “القراءة”.
وكم من “قارئ” مستعبدٍ للعباد ومدمِّرٍ للبلاد… باسم “القراءة” أيضا.
وكم من “قارئ” يسعى في خراب بلاده واستعداء العدو عليها وموالاته له على حسابها…
وكم من “قارئ” يحارِب الله ورسوله جهاراً نهاراً ويمْكُر بالمسلمين، ويفسد عليهم دينهم ودنياهم.
وكم من “قارئ” يفسد في الأرض ويحسب أنه من المصلحين: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الارْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ (البقرة 11 – 12).
كل ذلك يحدث نتيجة لقراءة لا تكون باسم الله، وإنما تكون باسم الهوى أو الشيطان، فتنتج ما تنتج مما نَراهُ الآن، مما لا يعود على الإنسان إلا بالدمار والخراب والخُسران.
فمتى تستيقظ أمة “اقرأ” لتصبح فعلاً أمَّة قارئةً يَفْخر بقراءتها كل العالمين؟

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>