إحيـــاء القــلوب بمكابــدة القـــرآن 1


لقد أجمع العلماء والدعاة على أن هذا الدين -كتاباً وسنةً- مِنْهَاجُ حياة، وإنه لن يكون كذلك في واقع الناس أفراداً وجماعات ومؤسسات إلا باتخاذه مَشْرُوعَ حَيَاةٍ، تُفْنَى في سبيله الأعمار.
وهذه قضية منهجية أساسٌ لتلقي موازينه الربانية، والتخلق بحقائقه الإيمانية؛ حتى يصبح هو الفضاء المهيمن على حياة المسلم كلِّها دِيناً ودُنْياً.
إن هذا الهدف العظيم لا يمكن أن يتحقق للإنسان، إلا بعقد العزم على الدخول في مجاهَدات ومكابَدات مستمرة للتحقق بمنازل القرآن ومقاصده التعبدية، من الاعتقاد إلى التشريع، إلى مكارم الأخلاق وأشواق السلوك، سيراً بمسلك التلقي لحقائق القرآن الإيمانية، والمكابدةِ الجَاهِدَةِ لتكاليفها الشرعية، والسير إلى الله من خلال مِعراجها العالي الرفيع.
ثم تتبع آيات القرآن، من أوله إلى آخره، آيةً آيةً؛ حتى يختم كتاب الله على ذلك المنهاج.
وإننا لَنَعْلَمُ أن الكمال في هذه الغاية هو مما تفنى دونه الأعمار، ولكن ذلك لا يلغي المقاربة والتسديد، وإن أحق ما توهب له الأعمار كتاب الله.
وفي مَثَلٍ بليغ، حقا بليغ: «أن نملة انطلقت في طريقها، عاقدةً عزيمتَها على حج بيت الله من أقصى الأرض! فقيل لها: «كيف تدركين الحجَّ وإنما أنت نملة؟! إنَّكِ ستموتين قَطْعاً قبل الوصول!» قالت: «إذن أموت على تلك الطريق».
وإنَّ القرآن لهو بحق مشروع العمر، وبرنامج العبد في سيره إلى الله حتى يلقى الله.
وما كان تنجيم القرآن، وتصريف آياته على مدى ثلاث وعشرين سنةً إلا خدمةً لهذا المقصد الرباني الحكيم.
ولقد استغرقَ القرآنُ عُمْرَ النبي ، وأعمارَ صحابته الكرام جميعاً، فكان منهم مَن قَضَى نَحْبَه قبل تمام نزوله، ومنهم مَنْ لم يزل ينتظر، حتى جاهد به على تمامه في الآفاق بَقِيَّةَ عمره، إلى أن توفاه الله.
لقد عاشوا بالقرآن وللقرآن، وما بدلوا تبديلاً، فكانوا هم الأحق بلقب: «جيل القرآن»، أو «أمة القرآن».
لقد كان الواحد منهم إذا تلقى الآية أو الآيتين أو الثلاث يَبِيت الليالي يكابدها، قائماً بين يدي ربه -عز وجل- متبتلاً يبكي ضعفه تجاه حقوقها، وبُعْدَ المسافة بينه وبين مقامها، فلا يزال كذلك مستمرّاً في صِدْقِهِ الصَّافِي ونشيجه الدامي؛ حتى يفتح الله له من بركاتها، ما يرفعه عنده ويزكيه، فإذا كان النَّهَارُ انطلقَ مجاهداً بها نَفْسَهُ، في أمورِ مَعَاشِهِ ومَعَادِهِ، وداعياً بها إلى الله مُعَلِّماً ومُرَبِّياً، أو مقاتلاً عليها عدواً، شاهداً عليه أو مستشهداً.
ولم يكن ينزل على الرسول من القرآن آيٌ جديد، حتى يكون الآيُ السابق قد ارتفعت له في نفوس أصحابه أسوارٌ عالية وحصونٌ، على قَصْدِ بناء عُمْرَانِ الروح العظيم، الذي بِلَبِنَاتِهِ الفردية ارتفع صَرْحُ الأمة وتألَّف.
ولم يزل التابعون وأتباعهم على هذا المنهاج القرآني، في التربية والدعوة والجهاد، حتى فَتَحَ الله لهم الأرض، ومَكَّنَ لهم فيها قروناً.
إنَّ الدخول الجماعي المؤلَّف مِن المؤمنين الربانيين، في هذا المشروع القرآني العُمْرِيِّ، هو أساس تجديد الدين، واستنبات جيل الفتح المبين.
وإن أغلب أفراد الأمة الإسلامية في شغل شاغل عن هذا المنهاج.
ولقد سجلنا في غير ما ورقة وكتابٍ، تشخيصَنا لأزمة العمل الإسلامي المعاصر، وبياناً لانحرافه عن الميزان الشرعي لمسلك الوحي، برنامجاً ومنهاجاً، ومخالفته لمراتب الأولويات الدعوية، كما هي مقررة في الكتاب والسنة.
إننا في حاجة إلى الدخول في ابتلاءات الآيات القرآنية والكلمات الربانية، تلقياً لحقائقها الإيمانية، ومكابدة لهداها المنهاجي؛ حتى يُشَاهِدَ كُلٌّ منا عبوديتَه لله خالصة نقية، ويَشْهَدَ عبوديتهُ له تعالى، على أتم ما يكون الوقوف على باب الخدمة والطاعة.
إن الأمة اليوم في حاجة ماسة إلى مَن يُبَلِّغُهَا هذه الرسالات، على سبيل التجديد لدينها، والخروج بها من أزمتها، وتوثيق صلتها بكتاب ربها؛ عسى أن تعود إلى احتلال موقعها، من شهادتها على الناس كل الناس، على منهاج النبوة الحق، ووظائفها الكبرى: تلاوةً للآيات بمنهج التلقي، وتزكيةً للنفوس بمنهج التدبر، وتَعَلُّماً وتعليماً للكتاب والحكمة بمنهج التدارس.
وإن يقيننا راسخٌ في أن الانخراط العملي الصادق المخلص في هذا المنهاج، يجعل الأمة تترقى بمدارج العلم بالله، والتعرف إلى مقامه العظيم؛ ما يجعلها تستأنف حياتها الإسلامية، على وزان جيل القرآن الأول: الصحابة الكرام، وإن ذلك لهو السبيل الأساس لتحرير الأمة من الأهواء والأعداء.
وإن يقيننا راسخ في أن أول من سيخضع لعمليات هذا المنهاج القرآني، وجراحته العميقة هو حامل رسالاته أولاً، فنور القرآن لا يمتد شعاعه إلى الآخرين إلا باشتعال قلب حامل لكلماته، وتَوهُّجه بحقائقه الإيمانية الملتهبة.

فريد الأنصاري رحمه الله تعالى


اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>

One thought on “إحيـــاء القــلوب بمكابــدة القـــرآن

  • ابو يحيى

    جزاك الله تعالى خيرا يا دكتور فريد كنت ولازلت معجبا بروعة تحليلك يبدو انه كلام صادر عن قلب صاحبه وهذا ما كنت المسه وانا استمع الى كلامك نطقا حقا كنت فريدا فتغمدك الله سبحانه بواسع رحمته ونفع بعلمك وجعله في ميزان حسناتك