من صفات الداعية إلى الله تعالى ووظائفه في القرآن الكريم


حظي موضوع الدعوة إلى الله جل وعلا بمساحة واسعة في القرآن الكريم وذلك من جهات عدة؛ جهة الداعية، ويندرج تحتها الرسل والأنبياء والدعاة إلى الله في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة، وجهة المدعو، وهو المستهدف من الدعوة، وجهة موضوع الدعوة، وأخيرا جهة المنهج الدعوي الذي يسلكه الداعية إلى الله في دعوته.
ويحاول هذا المقال أن يبين جانبا من فقه الدعوة في القرآن الكريم وهو المتعلق بوظيفة الداعية إلى الله تعالى.
تعرف أولي :
المقصود بالداعية في القرآن الكريم، هم الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بما هم أول الدعاة إلى الله تعالى، فهم حاملو الرسالة ومبلغوها عن الله جل في علاه، وكل ما يتعلق بهم -طبعا- ينطبق على غيرهم من الدعاة، سواء أولائك الذين عاصروهم، أو أولائك الذين جاؤوا من بعدهم من العلماء والأصفياء.
صفات الداعية إلى الله تعالى ووظائفه:
حينما تستقري القرآن الكريم، تجد أن الآيات التي تحدثت عن الرسول ، إنما تحدثت عنه من جهة بيان أوصافه وأخلاقه، ومن جهة بيان مهمته الدعوية.
ومثال الأولى، قوله سبحانه: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (القلم : 4)، وقوله سبحانه: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم (التوبة : 128)،
ومثال الثانية، قوله تبارك وتعالى: وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (الأنعام : 48). وقوله عزوجل: وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ (المائدة : 92)، وقوله سبحانه: فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ (النحل : 82). وقوله عز وجل: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (النور : 54).
وغير هذه الآيات كثير، مما يبين أن مهمة الرسل والأنبياء، وكذا الدعاة، إنما تنحصر في تبليغ الرسالة مع بيانها، وإقامة الحجة على الخلق، ولم يكلفوا غير ذلك من هداية البشر، قال سبحانه: وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِين (يونس : 99). ومما لا شك فيه أن الآيات التي عنيت ببيان وتأكيد صفات الأنبياء وأخلاقهم من الصدق والأمانة، وتبرئتهم من كل التهم والشبه الموجهة إليهم، إنما هي خادمة لمعنى التبليغ والبيان عن الله سبحانه.
والمتأمل للآيات المبينة لمهام النبي ، ليجد أنها جاءت في سياقات مختلفة، حسب السورة التي تنتمي إليها، وحسب الموضوع الذي تعالجه السورة، فقوله تعالى: وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون (الأنعام : 48). جاءت متناسبة متناغمة مع موضوع سورة الأنعام التي تتحدث عن موضوع العقيدة، تماما كغيرها من السور المكية، فبعدما بدأت السورة ببيان حقيقة الألوهية، والعبودية (1) التي تجب لله سبحانه على الخلق بما هو خالقهم، وتكذيب هؤلاء الخلق بما أتاهم به الرسول (2)، ومطالبتهم له بالإتيان بما ليس في مكنته كبرهان على نبوته، وعرض نماذج من المكذبين قبلهم وكيف نكل الله بهم بما كذبوا بالحق لما جاءهم، تأتي هذه الآية لتبين وظيفة الرسل، وأنهم ليسوا سوى مبلغين عن ربهم ما أوحاه إليهم من بشارة لأهل الخير والصلاح، ونذارة لأهل الشر والفساد. وأما أمر هداية البشر، فموكول إليه سبحانه يهدي من يشاء بإحسانه، ويضل من يشاء بعدله، وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (الأنعام : 35).
ثم يتابع القرآن الكريم في بيان وظيفة الرسل بقوله: قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ (الأنعام : 50).
وإذا انتقلنا إلى آية أخرى من تلك التي تبين وظيفة الرسل، ونظرنا فيها في سياق سورتها التي وردت فيها، فإننا سنجد أن القرآن الكريم يسير على نفس المنهج، يبين المهمة المنوطة بالرسل، ثم ينفي عنهم ما قد يتوهم أنه منوط بهم، وذلك كأن يُطَالَبُوا بما لا يستطيعون، كما في قوله سبحانه: وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ ، فجاء الرد لشبهتهم بقوله سبحانه في نفس الآية: قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (العنكبوت: 50)، فهم قد طالبوه بما ليس في مكنته باعتباره بشرا، وبما لا يدخل في المهمة المنوطة به باعتباره رسولا، فجاء الرد واضحا بينا، وذلك بإسناد الأمر المطلوب إلى من هو موكول به، وهو الله تعالى: قل إنما الآيات عند الله ، وبين وظيفته كرسول بقوله: وإنما أنا نذير مبين ، وقد علم في العربية أن إنما تفيد الحصر، فكانت مهمة الرسل بذلك محصورة في البلاغ المبين.
ومن ذلك أيضا قوله سبحانه: وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ (الإسراء: 90 /93)، فجاء الرد على هذه المطالب العجيبة الغريبة في قوله: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولا (الإسراء:93).
وقيد المبين الذي قيد به البلاغ في قوله تعالى: فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ (المائدة : 92)، وقوله سبحانه: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (النحل: 35) وقوله تعالى: وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (النور: 54)، وغير هذا من الآيات البينات الجليات، ينبغي التنبه إليه، وهو قيد ينص على أن مهمة الرسل لا تتوقف عند البلاغ فقط، وإنما تتعدى ذلك إلى بيان المبلغ، وتوضيحه للناس أتم ما يكون البيان والإيضاح.
وظيفة الدعاة بعد رسول الله :
وما سبق يمتد ليشمل الدعاة والعلماء بعد رسول الله ، إلى يوم القيامة، فليس على الأمة الشاهدة سوى تبليغ الدعوة، وإقامة حجة الله على العباد، ثم يبقى أمر الهداية موكولا إلى الله سبحانه (3). وتلك لعمري مهمة أمة سيدنا محمد ، قال سبحانه: الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (الحج : 41)، وقال جل في علاه: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (آل عمران : 110)، وقال سبحانه: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً (البقرة: 143).
ويستفاد من هذا أن الدعاة إلى الله تعالى دعاة بما دعا إليه الرسل ويشترط فيهم ما اشترط في الرسل مما يدخل في القدرة البشرية من القيام بالدين وإقامته واتباع ما أنزل من الوحي علما وعملا وتبليغا. واقتفاء أثر الرسول والتزام نهجه وسنته وسيرته في التحقق بالوحي والتخلق به ظاهرا وباطنا والتفرغ للدعوة بلاغا وبيانا.

ذ. محمد أمين الخنشوفي

—————-
1 – ينظر، ظلال القرآن، 2/1017.
2 – ينظر الجامع لأحكام القرآن، 6/383.
3 – ينظر منهج الجدل والمناظرة في تقرير مسائل الاعتقاد، للدكتور عثمان علي حسن: 2/ 729.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>