شرح الأربعين الأدبية [34] في أن الفخر يكون بالدين لا بما أصله الطين


روى الطبراني «عن ابن كعب بن مالك قال: قال كعب بن مالك: إن النبي  مَرّ به وهو ينشد:
ألا هَلْ أَتَى غَسَّانَ عنَّا وَدُونهمْ
مِنَ الأرْضِ خَرْقٌ حَوْلَهُ يَتَقَعْقعُ
تَجَالُدُنا عَنْ حُرْمِنَا كُلّ فَحْمَـــةٍ
كَرِدْفٍ لها، فيها القَوَانِسُ تَلْمَـعُ
فقال النبي : لا يا كعب بن مالك. فقال كعب: تجالدنا عن ديننا كل فحمة. فقال النبي : نعم يا كعب»(1)

هذا الحديث من أحاديث سماع النبي الشعر، وتعليقه عليه، وفيه ثلاثة أمور:
أولها أن الحديث هنا عن الصحابي الشاعر كعب بن مالك، وهو راويه، وكعب أحد شعراء رسول الله  الثلاثة، «كان مجوّدا مطبوعا، قد غلب عليه في الجاهلية أمر الشعر، وعُرف به، ثم أسلم وشهد العقبة، ولم يشهد بدرا، وشهد أحدا والمشاهد كلها حاشا تبوك، فإنه قد تخلف عنها»(2)، وهو ممن كان يَرُد على مشركي قريش، وكان «يُخَوِّفهم الحرب»(3).
فالحديث بناء على ذلك يَجمع بين ثلاثة أمور: أولها أن موضوعه الشعر، وثانيها أن راويه شاعر، فهو من أهل الاختصاص، وثالثها أن هذا الراوي الشاعر هو الذي كان يُنشِد الشعر وعلق عليه النبي .
والحديث يَذكر لنا أن النبي  مَر بكعب وهو ينشِد، وفيه دلالة على أن الإنشاد لم يمنعه مانع من إسلام أو غيره، وأن الشعراء ظلوا أوفياء لموهبتهم الشعرية فاستمروا في إنشاد الشعرِ في المجالس والمناسبات.
والأمر الثاني هو الشعر الذي كان يُنشِده كعب، وقد ورد منه في نص الحديث بيتان، وهما في قصيدة من تسعة وأربعين بيتا(4)، أولهما مَطلُعها، وثانيهما سادسُها، والقصيدة مما قيل مِن الشعر في يوم أحد، وقد رَدّ بها كعب بن مالك على شاعر قريش هُبيرة بن أبي وهب(5)، ويُفهم من ذلك أن النبي سمع الأبيات الستة الأولى على الأقل، والظاهر أنه سمع القصيدة كاملة، فاكتفى راوي الحديث بمطلعها المنبئ عنها، والبيت السادس باعتباره محل التدخل النبوي.
ورواية المتن للبيتين مخالفة لرواية السيرة وعدد مِن أمهات المصادر، ففي هذه الرواية: «يَتَقَعْقع» و«تجالدنا» و«حرمنا» و«فحمة» و«كردف»، وفي السيرة مثلا: «متنعنع» و«مجالدنا» و«ديننا» و«فخمة» و«مذرَّبَة».
وإذا كان لفظ «ديننا» الواقع في السيرة هو اللفظ المختار بعد التنقيح، فإن لفظ «فحمة» قد عده جامع الديوان تصحيفا، وأن الصواب «فخمة»، وهي «الكتيبة العظيمة».
وقد وقع في رواية المتن «حرمنا» ولم يضبط، ووزن الطويل يقتضي تسكين الراء، فلعله «حُرُمِنا» اقتضت الضرورة الشعرية تسكين رائه فصار «حُرْمنا»(6)، و«حُرُمُ الرجل: عياله ونساؤه وما يحمي»(7)، وفي رواية السيرة وغيرها «جذمنا»، والجِذم: «أصل الشيء»، و«جذم القوم: أصلهم»(8)، والمعنيان متقاربان، وحاصلهما أن كعب بن مالك جعل التجالد عن الحسب والنسب والأهل، وهذا يجعل شعره افتخارا بما كانت العرب تفتخر به، وبقية من بقايا الجاهلية في شعر هذا الشاعر المسلم.
وأما الأمر الثالث من أمور الحديث فهو تعليق النبي  على كعب لما سمع قوله «تجالدنا…»، وذلك بقوله: «لا يا كعب بن مالك»، وعدول كعب عن قوله الأول إلى «تجالدنا عن ديننا كل فحمة» يفيد أن محل الإشكال كان في عَمَّن يَقع التجالد: أَعَن الدين أم الحرم، وقد ظهر نَهْيُ النبي  عن الأول في رواية المتن، وأن كعبا لسرعة بديهته عرف محل الإشكال، وموضع الخطأ، وعدل عنه بسرعة فوافقه النبي  بقوله: «نعم يا كعب».
وفي ذلك أن الفخر يكون بالدين لا بالأصل والحسب والنسب والعشيرة…
وأن التجالد يكون عن الدين لا عن غيره.
وفيه أن النبي  أراد أن يغير موضوع الفخر، فينتقل به مما كان يفخر به شعراء الجاهلية إلى ما جاء به الإسلام.
وأنه بعد الإسلام لم يعُد هناك مجال للفخر بالحسب والنسب؛ لأن كل الناس بنو آدم، وآدم من تراب، ولأن أكرم الناس عند الله أتقاهم.
وأن الشاعر وإن كان مسلما راسخ الإيمان، فقد يزل زلة ما، وقد تكون الزلة ناتجة عن عدم انتباه، لا عن اقتناع.
وأنه لا بد من أن يكون السامع يقظا لما يقوله الشاعر، وليس كل ما يَقوله يُقبل.
وأنه لا بد من ناقد بصير بضروب القول وخلفياته؛ يفيد الشاعر نفسه، ويبصره بمواضع عيوبه.
وأن الناقد غير مشروط فيه أن يكون شاعرا، فقد يقول الشعر من لا ينقده، وينقده من لا يقوله.
وأن على الشاعر أن يستفيد من ملاحظات الغير، ولا سيما إن كانت من ناقد بصير، مما يفيد أن الشاعر والناقد يكمل بعضهما بعضا.
وفي كل ذلك صورة لمشهد من مشاهد إنشاد الشعر وسماعه زمن النبي ، ولنا فيه دروس في كيف ينبغي أن تكون، وما هو دور الشاعر، وكيف يعبر، وما دور السامع، ومتى يمكنه التدخل، ثم قبل هذا وذاك كيف يكون ذلك كله في مصلحة الأمة.
د. الحسين زروق
—————
(1) – المعجم الكبير، 19/97، حديث رقم 192، قال عنه الهيثمي في (مجمع الزوائد: 8/127): «رواه الطبراني، وإسناده حسن». والحديث من زوائد ابن هشام في السيرة، 3/100-101، لكنه لم يذكر سنده فيه.
خرق: فلاة واسعة. يتقعقع: يضطرب ويتحرك. تجالدنا: تدافعنا. القوانس: جمع قونس، وهو أعلى الخوذة.
(2) – الاستيعاب، ص: 625.
(3) – الاستيعاب، ص: 625.
(4) – سيرة ابن هشام، 1/96-100، وعنه نقل جامع الديوان، ص: 180-185.
(5) – سيرة ابن هشام، 1/93 و96.
(6) – وافق اللفظ آخر التفعيلة الثالثة وأول التفعيلة الرابعة من البحر الطويل، وهما: (فعولن مفاعيلن)، فإن حركت راء (حرمنا) اضطرب الوزن.
(7) – لسان العرب، 12/123، مادة «حرم».
(8) – لسان العرب، 12/88، مادة «جذم».

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>