خروق في سفينة المجتمع38- مـرض الـغـفـلة


تحتاج سفينة المجتمع، من أهم ما تحتاج إليه من شروط، لأجل السلامة والبقاء، واضطراد النماء- شأنها في ذلك شأن سفينة البحر- إلى شرط اليقظة الذي يكاد يشكل الإطار النفسي الحيوي والأساس، الذي ينتظم حركة أهل السفينة على اختلاف فئاتهم ومناشطهم، على اعتبار أنه يمثل رصيد الوعي وعمق الرؤية للوجود لدى هؤلاء، والتي تعصم كيانهم من أن تتسرب إليه عوامل الضعف والوهن. وإذا كانت عواقب الغفلة التي تصيب سفينة المجتمع تختلف عن تلك التي تلحق سفينة البحر في كون الأولى تقع في مدى زمني طويل نسبيا، على عكس الأخرى التي تكتسي طابع الفورية والعنف الذي تتجلى آثاره النفسية وخسائره المادية الرهيبة للجميع في لحظات معدودات، ولا تنحجب عن أي كان، فإن النتيجة في نهاية المطاف تظل واحدة: هي المساس بحالة التوازن والأمن والاستقرار في كل منهما، بالقدر الذي يتناسب مع درجة الغفلة، وخطورة المجال الذي تحدث فيه، وقد يصل حجم تلك النتيجة بحسب المعيار المذكور، إلى حالة من التفكك أو الانهيار أو الاندثار، تأتي على السفينة بأكملها، إذ السنة التي تتحكم في الوضع هنا وهناك واحدة، وإن كانت تجري بأشكال مختلفة، وتمظهرات متباينة. وإذا كانت المجتمعات تتفاوت في قوة تماسكها وقوتها ومناعتها، فإن ذلك التفاوت يعود في كفل هام منه إلى التفاوت في درجات اليقظة التي يتسلح بها كل منها في تعامله مع كل ما يجري فيه من حركات وأعمال. ومما لا شك فيه، أن ما يسمى بالأمن القومي لدى المجتمعات المعاصرة التي تحرص على أن تكون لها الريادة والهيمنة في العالم، يقوم في صميمه على اليقظة التي تشكل صمام الأمان، وإذا انخرق هذا الصمام أو أصيبت بعض مكوناته بالتلاشي والتلف حلت الكوارث والمحن. ويمكن تشبيه الأمر هنا أيضا بمفاعل نووي، تعرض صمام الأمان فيه للخلل أو التدمير، فانطلقت إشعاعاته السامة والخانقة تلوث الأجواء، وتودي بالأرواح والأجسام، وتنشر الخراب في كل شيء. ومهما يكن شأن الأمم والشعوب في تقديرها لصفة اليقظة كعامل للسلامة والبقاء، وتحذيرها من صفة الغفلة كسبب للمحن والبلاء، فإنها لن تبلغ في ذلك شأو الإسلام الذي يحذر من الغفلة في مفهومها الشامل والعميق أيما تحذير، لكونها مدخلا للشر الشامل، على اعتبار أنها غيبوبة عن الحقائق الكلية والجزئية على حد سواء، تنتج آثارها الفادحة وعواقبها الوخيمة على مستوى الوجود الفردي والاجتماعي، أو على مستوى الأمن الدنيوي والأخروي. ففي شأن النهي عن الغفلة في معناها النفسي والعقدي يقول الله تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} (الأعراف : 205). ويقول سبحانه: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا}(الكهف:28) فذكر الله جل جلاله على جميع الأوضاع والأحوال، وفي كل وقت وآن، والامتناع عن طاعة الغافلين، يعتبر سلاحا فعالا ضد الغفلة، يحول دون ما توقع فيه من سقطات وزلات، وكوارث وويلات، وينظر الإسلام إلى الغفلة على أنها- في أوخم حالاتها- سبب للبوار والخسران، وذلك باعتراف مقترفيها الذين يصورهم القرآن الكريم في الموقف العصيب في قوله تعالى:” واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين}(الأنبياء:97). وفي شأن تحذير القرآن من الغفلة في معناها الحسي يقول الله عز وجل: {ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة}(النساء:102). فالغفلة في جميع مستوياتها وأنواعها مجلبة للعار والبوار.

ولو أننا حاولنا أن نرجع كل ما يحيق بسفينة مجتمعنا من زلازل وهزات، وهزائم وإخفاقات، إلى عللها الدفينة وأسبابها العميقة، لوجدناها كامنة في الغفلة، الغفلة عن الله فيما أمر به ونهى عنه، والغفلة عن تقدير عواقب ذلك في الدنيا والآخرة، والغفلة عن سنن الكون ونواميس الوجود، والغفلة عن سنن العمران، وما يورثه من تخلف وغيبوبة عن وظيفة الشهود، وانسحاب من حلبة المكان والزمان، ومن تجرع لكؤوس المذلة والهوان. إننا إذا استقرينا الأجهزة المتحركة في مختلف قطاعات سفينة المجتمع، وجدناها مسخرة في أغلبها، للأسف الشديد، لتبليد الإحساس وتعميق مرض الغفلة في النفوس، فما ظنك بأجهزة تعزف على حب الدنيا وكراهية الموت، بسبب ترجيح الحس الدنيوي على الحس الأخروي؟ إن تأجيج نزعة الاستمتاع بملذات الحياة الدنيا بلا ضوابط ولا حدود، على حساب إذكاء روح الإيمان، والسمو بالأرواح، عبر تفيؤ ظلال القرآن الكريم، والتقرب إلى الرحمن بجلائل الأعمال، رجاء لوقاره جل وعلا، قد أورث سفينتنا قابلية غريبة للانخراق، لأن مناعتها وصلابتها لا يمكن أن تتشكل في ظل نفوس يسكنها الوهن، وتشكل مرتعا خصيبا لوساوس الشيطان ونفثه ونزغه، ومن ثم فهي عرضة للعواصف والأنواء، وتربص الأعداء، الذين يقتنصونها بكل يسر وسهولة، وينْقَضُّون عليها بكل شراهة وشراسة. إن المجتمع الذي يحرص ديننا الحنيف على بنائه البناء الشامخ المتين، هو مجتمع اليقظة الكاملة الذي يسقي القرآن المجيد كل أفراده بمائه العذب الزلال الذي يحيي القلوب، ويفجر فيها ينابيع الحكمة التي تثمر كل الخيرات والمبرات، وتجرف كل المساوئ والمنكرات، مجتمع يترسم خطى النبي العدنان ، رسول الرحمة وحبيب الرحمن صلى الله عليه وسلم، والذي جعله الله عز وجل أحسن أسوة وخير مثال، فهو الذي مثل أعلى حالة للذكر واليقظة، وصنع أرقى نموذج للمجتمع الحي المعطاء، الذي كان خير أمة أخرجت للناس، مصداقا لقول الله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر}(آل عمران:110). صدق الله العظيم .

د. عبد المجيد بنمسعود

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>