القرآن الكريم والسـلام الاجتماعي(2)


مفهوم السلام في القرآن الكريم
نشرنا في العدد الماضي مدخلا إلى المحاضرة الذي تضمن نقطتين: أولاهما: مقدمة في حاجة الأمة إلى المعجم المفهومي للقرآن الكريم، وثانيهما: مفهوم السلام الاجتماعي في التداول العولمي. وننشر في هذا العدد النقطة الثالثة المتعلقة ب : “مفهوم السلام في القرآن الكريم”. إن التصور السابق للسلام الاجتماعي في التداول العولمي حينما نقارنه بالتصور للسلام في القرآن الكريم، فإننا سنجد عالَما آخر، ولتكن البداية لبيان ذلك بالدلالة المعجمية، فماذا يقول المعجميون؟ وقفتُ عند ثلاثة منهم، وهم: الراغب الإصفهاني و حسن المصطفوي ومحمد حسن جبل(1)، وسآخذ لقطات من كلامهم فقط، عن معنى السلام وبعض ألفاظ المادة بصفة عامة عن معنى ذلك في القرآن الكريم؛ لأن هؤلاء المعجميِّين كلهم تخصصوا في دراسة الدلالة القرآنية فقط، والذي يعنيهم هو الألفاظ العربية التي منها تألف كلام القرآن الكريم، ولا يهمهم الألفاظ العربية الأخرى التي لم ترد في القرآن الكريم. يقول الراغب: السَّلم والسلامة: التعري من الآفات الظاهرة والباطنة، وعنده أن السلامة الحقيقية ليست إلا في الجنة، إذ فيها بقاء بلا فَناء، وغنى بلا فقر، وعِز بلا ذُل، وصحة بلا سقم، كما قال تعالى: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ}، {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ}. ومما يُستحَقُّ ذكره من كلامه: والإسلام الدخول في السَّلم وهو أن يَسْلَم كل واحد منهما أن ينالَه من أَلَم صاحبه. أما المصطفوي فيقول: والتحقيق أن الأصل الواحد في هذه المادة هو ما يُقابِل الخصومة وهو الموافقة الشديدة في الظاهر والباطن، ولما كان أصل المعنى لازما -يعني “سَلِمَ” ليس متعديا- فيكون مفهومه حصول الوفاق ورفع الخلاف والخصومة في نفسه أو غيره. وأما السَّلام فهو مصدر كالكلام، ومعناه السَّلْمُ، والسَّلم بزيادة في مفهومه لزيادة في لفظه ومبناه، الزيادة في مبناه تدل على الزيادة في معناه، وهو التوافق الكامل ورفع أي خلاف في الظاهر أو الباطن. وقلنا إن السَّلَم في ذات الشيء حيث هو عبارة عن تحقق الاعتدال والنظم الكامل في ما بين الأجزاء. وأما الباحث الدكتور محمد حسن جبل فعنده المعنى المحوري هو صحة جلب الشيء والتئام ظاهره في ذاته أي عدم تصدُّعه. الذي يُلاحَظ مما يحوم حوله هؤلاء جميعاً : أولا الاهتمام بالباطن وبالظاهر، معناه هناك سلَام نفسي وهناك سلام خارجي. والأمر الثاني: هو الاعتدال أو التوافق التام، وهذا ما يبدو واضحا من خلال لفظ الالتئام ولفظ التوافق ولفظ الاعتدال وغيرها من الألفاظ. وببعض التأمل في استعمالات هذه المادة في القرآن الكريم يمكن أن نقول إن السَّلام صفة، هي صفة يسعد بها البشر، (أقصد السلام بالنسبة للناس، أما السَّلام الذي هو اسم الله جل جلاله فهذا موضوع آخر)، أي أنها صفة محمودة، والناس الذين يعيشون في سلام في المفهوم القرآني يعيشون حياة سعيدة، السلام صفة يَسعَد بها من حُفظ من مسببات الآفات، -ومسببات الآفات كثيرة داخلية وخارجية- مَن حُفظ من مسببات الآفات قلباً وقالباً هو الذي يسعَد بهذه الصفة، نتيجة اتزانه واعتداله. وبتعبير آخر؛ السلام صفة وإن شئت قلت حالةٌ، أي السلام حالة يكون عليها الفرد أو يكون عليها أيّ كيان اجتماعي بل أيّ فرد؛ أيّ أسرة، أيّ مجموعة بشرية، أيّ مجتمع معين في نقطة معينة، أيّ حي، أيّ شيء… معنى هذا أن أيَّ نوع من أنواع العلاقة التي يسود فيها السلام تكون نتيجة لاتزان قائم في الشيء نفسه الذي يسعد بالسلام، “الاتزان” معناه المكوِّنات التي منها يتكوَّن ذلك الشيء الذي يتصف بالسلام، هذه المكونات تكون في علاقتها ببعضها في تمام الاعتدال والاتزان، يعني كل أُعطي له حقه المناسب له، كل جزء في التكوين، كل جزء من الأجزاء المكونة للكل أُعطي له حقه المناسب له، وهو في تمام الانسجام مع الآخرين لأنه لا يجور عليه سواه ولا يجور هو على سواه؛ فنتيجة هذا يكون السَّلام بدءاً من الأمر الأول “السَّلام النَّفسي”، كما يبدو من قول الله عز وجل: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} وقوله عن النفس {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً}؛ طبعاً لِمَ كان هذا القلب مطمئنا؟ ولِمَ كانت هذه النفس مطمئنة؟ بسبب تصور صحيح لدى القلب أو لدى النفس عن خالقها وعن كل المخلوقات في علاقتها بخالقها، لديها تصور صحيح منسجم يدافع بنفسه عن نفسه، لأنه (أي التصور) لم يأت من أيِّ بشر، وإنما جاء من عند العليم الخبير خالِق الجميع الذي يعلَم السرّ وأخفى. التصورات الموجودة خارج عالَم القرآن، عن الله جل جلاله، وعن الإنسان، وعن كليات عالَم الغيب وعالم الشهادة، هذه التصورات بصفة عامة محكوم عليها بالنقص والقصور بسبب مصدريتها في علاقتها بالتصور الربّاني الذي لم يكن من صُنع بشر، فرداً كان أو جماعة، مَجمعا أو برلمانا، أو في أي قرن حتى يوم تقوم الساعة. لا يمكن لأي جهة أن تتحدث عن سرِّ العالَم وسِرّ الكون وسرّ الخَلق، لأنها ليست مُخوَّلة لذلك، لا تعلَم القبل ولا تعلَم البَعد، ولا تعلم الكائن الآن، لا تعلم حتى نفسها، لا تعلم شيئا {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا}، {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}، {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ}، أما هو فقد {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} و{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}، سبحانه وتعالى. هذه الأهلية لوضع التصور الصحيح ليست إلا لله تعالى، ولذلك بدل أن نبقى معذَّبين في الأرض، متخبطين في محاولة فك السِّر، سِرِّ الحياة، سر الكون، سرّ الفرد…- كما يفعل العديد من الفلاسفة والمفكرين فيتخبطون-، فإن الله تعالى أحن بعباده، لأنه هو الذي خلقهم، لم يؤهلهم للوصول بمحض بحثهم وجهدهم، لم يجهِّزهم هذا التجهيز، لم يضع فيهم -وهو خالقهم- لم يضع فيهم التجهيز الذي يسمح لهم بأن يستطيعوا معرفة هذه الأشياء، فلذلك جاءهم بعالَم الغيب جاهزاً رحمة بهم، وجاءهم بكليات عالَم الشهادة أيضاً جاهزة. هذه النظرة الشمولية الآن للحياة القائمة على: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ}، أي يوم يقوم الإنسان هكذا يقولها؛ كان الموت الأول وبعده الحياة هذه التي نحياها الآن، ثم الموت الثاني وبعده الحياة الأخرى التي لا نهاية لها، هذا الامتداد اللانهائي للحياة وكيف هذا التعاقد بين الموت والحياة، وما الملك وما الحياة، لأن عملية الموت لا تعني انتهاء الروح {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} هذا أبونا الأول، {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ}، نحن الذين جئنا من بعد، أيضاً يُرسَل إلينا الملَك فينفخ فينا الروح، وعند الموت تنفصل الروح عن الجسد ليعود الجسد بعد ذلك إلى التراب حتى يأتي أوان الحشر، أوان البعث… كل هذا دبره الله عز وجل. ولهذا أقول إن السَّلام النفسي، والطمأنينة القلبية، لا يمكن أن يتحققا إلا بالإسلام لله تعالى وذكره عز وجل واتّباع ما أنزله. إن الصورةَ التي رسمها الله جل جلاله لعدم الاستقرار النفسي، نتيجةَ الشرك بالله والكفر به، صورةٌ مُرْعبةٌ مخيفة، كما في قوله تعالى {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخطفُه الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} تأمل هذه الصورة، كيف يكون صاحبها! أي حالة من الرُّعب يعيش!، {فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} من نقطة لا يُدرى ما هي في السماء، وهو نازل فتخطفه الطير، الطير الكواسر، تأخذ منه من لحمه، فتخطفه الطير، النسور وغيرها، أو تهوي به الريح في مكان سحيق، أي حالة نفسية؟! أي استقرار؟! أي سلام نفسي يكون لهذا الشخص؟!، ولذلك كانت هذه العبارة بـ{أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}، لا يمكن أن تطئمن القلوب إلا بذكر الله، وإنما يعرف هذا حق المعرفة من كان كافراً ثم أسلم، الذين خرجوا من الجاهلية وعادوا إلى الإسلام، أو الذين كانوا نصارى أو كانوا يهودا أو كانوا مجوساً أو كانوا…، المهم كانوا كفاراً ثم تابوا، هؤلاء يحدثونك عن معنى القلق النفسي الذي كانوا فيه قبل أن يعرفوا الله حق المعرفة، قبل أن يكون لهم هذا. فهذا هو السَّلام، وهذا المعنى يأتي نتيجة تصور، نتيجة اتزان الأشياء كما قلت سابقا، كل شيء في موضعه،،، هناك هذا الجانب التصوري، هناك جانب العلاقات، هذه الأشياء التي استُخلِفنا عليها الاستخلاف الفردي، ما استُخلفنا عليه في ذاتنا، كيف نتعامل معها، واستُخلفنا عليه في ولاياتنا انطلاقا من أصغر ولاية إلى أعلى ولاية، كيف ينبغي أن نتعامل؟ ما هو النظام الحاكم؟ هذا الذي يسمُّونه عند غيرنا القانون، وعندنا يسمى بالشرع أو بالفقه الذي استُنبط من الشّرع، هذا التنظيم وفق الوحي لكيان المجتمع، هو الذي يجعله مؤهَّلا ليعيش حالة السَّلام. وهو ما تشير إليه الآية الكريمة {وَلَوْ انَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالارْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}، {فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى}: لا شقاء! وما مقابل الشقاء؟ السعادة، وهي ممثلها السَّلام، لأن الجنة في الآخرة تُسمّى دار السلام {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ}. هذه الحالة تأتي نتيجة لاتباع ما أنزل الله عز وجل، اتباع هدى الله، {فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} بالتنكير، أي قدر من الهدى، في أي مجال من مجالات الحياة، {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ} في أي مجال، وفي ذلك المجال، وفي كل مجال {فَلَا يَضِلُّ}، لا يمكن أن يَضِل (لا يمكن أن يتيه أو يدخل في متاهة نفسية)، لأن الإنسان عندما يضِل يدخل في الحيرة ويدخل في القلق، لأن الهدف لا يعود واضحاً ولا يعرف أين يتجه، بسبب عدم وجود بوصلة صحيحة تُرشِده، لم تعد القبلة واضحة لديه. {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى}، {ولا يشقى} ولا يعيش حياة الشقاء وحياة التعاسة، ولها صور كثيرة، {وَمَنْ اعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} معيشة ضيقة جدّا، معيشة شقية، معيشة تعِسة، {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}… إلخ. فإذن “السَّلاَم” هو حالة أو صفة تُمنح لمن اتبع هدى الله، هدى الله بصورة كاملة، ولا يمكن تبعيض هذا الهدى، لن يدخل في قاعدة {أَفَتُومِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}، الهدى لا يتبعَّض، هدى الله لا يتبعَّض، لا يمكن أن نعمل بجزء منه ونُعَطِّل الباقي، لأن أي تعطيل لذلك الجزء ينعكس خلله على الجزء الآخر، {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ}، لم ينسوا كل شيء، نسوا حظّاً، قدراً مِما ذُكِّروا به، {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إالَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}، والله يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم : {وأَن احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِع اهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُم أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}، {وَاحْذَرْهُم أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ}، وأنا أنبّه الأحبة الذين يدرسون كتاب الله أن يهتمّوا بهذه البعض، فهي تدور في كتاب الله دوراناً خاصّاً ولها نتائج خطيرة جدا، فلا يمكن أن نقول مرحبا بالقرآن، مرحبا بالشرع في هذا المجال وفي المجال الآخر لا مرحباً به، لا يمكن، هذا ضلال مبين، {ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ}، {وَيَقُولُونَ نُومِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ}، لا يمكن، لا يمكن، أو كما عبَّر بعضهم “خذوه كله أو دعوه”، لأنه لا يقبل التجزيء. هذا عن مفهوم السّلام، هذا المفهوم نفسه كيف نصل إليه؟ نجد ذلك في القرآن الكريم في حديثه عن سُبُل السلام، في قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ}، والنور أساساً يُعطي قدراً كبيرا للسلام، لكل نور نورانيته، تصوّر أنك تمرّ بشارع أنواره مُضاءة، وهو نفسه ذلك الشارع تمر فيه والأضواء مطفأة، ظلام دامس، فالحالة النفسية التي تكون لك إن قدرت أن تمر في ذلك الظلام ستكون حالة نفسية سيئة، لن تكون مارا بسلام، لا سلام نفسي ولا سلام حسي، وحتى إن مررت بسلام حسّي لن تمرّ بسلام نفسي، لأن النور يعطيك في حد ذاته قدرا من السلام، وقدرا من الطمأنينة، ولذلك نجد في قوله تعالى هذا إضافةً ذات دلالة مهمة: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ}، انتبهوا إلى قوله عز وجل: (من اتبع)، وفي قوله تعالى: {فَإِمَّا يَاتيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ}، وهنا {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ}، الذي لم يتبع لا هداية له، فلا عجب أن نرى النتيجة غائبة، أن لا نرى السلام الاجتماعي في المجتمعات الإسلامية، لا عجب في ذلك، لأننا لا نتبع رضوان الله في كتابه، {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ}. الطرق الموصلة إلى السلام عديدة وما أكثرها، خذ الطرق الضخمة، طريق المقاصد، حفظ المقاصد، واستعد لهذه الضروريات الخمس على سبيل المثال: حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ العقل وحفظ المال وحفظ العِرض، هذه الأمور إذا حُفِظت في المجتمع وكان الناس آمنين مطمئنين على أموالهم وعلى أعراضهم وعلى عقولهم وعلى أنفسهم وعلى أديانهم، إذا كانوا هكذا فقد كُفِل لهم أهم ما ينبغي أن يكفل فيتحقق لهم قدر كبير من الشعور بالسلام، والأمن. ثم يأتي مجال القواعد المنظمة للحياة أعلى المقاصد الكبرى التي إليها يتجه التشريع -وهي تشبه المساطر في لغة القانون بصفة عامة- تأتي هذه القواعد إذا سار عليها الناس، وانضبطوا لها وساروا وفقها في مختلف المجالات، سواء في مجال العبادات أو في مجال المعاملات، حسب التصنيف، إذا انضبطوا لذلك فإن الله تعالى ،بسبب ذلك، يمنحهم حالة السَّلام، يمنحهم هذه الراحة والطمأنينة والسعادة والعيش الكريم الذي يأتي نتيجة لذلك فيتحقق لهم تلقائيا السلام الاجتماعي. ثم أمر آخر هو إشارة في ضميمة أخرى هي “دار السلام” {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} والله يدعو إلى دار السلام، دار السلام هذه نرى فيها آية لطيفة تصف واقعها {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تاثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا}، مسببات الآلام والمصائب هي هذا التأثيم وهذا اللغو، وإذا أُعرِض عن التأثيم وأُعرض عن اللغو، هنا في هذه الحياة، – والإثم فيه الكبير: كبائر الإثم، وفيه المتوسط وفيه الصغير- إذا تُجنِّبت الآثام وإذا تُجنِّب ضرب منها الذي هو اللغو، أي إذا لم توجد هذه الآثام ولم يوجد هذا اللغو تكون حالة السلام، وبذلك فإن ما ورد في (دار السلام) المذكورة في الآية يشير إلى هذا المعنى الذي يدخل في تكوين مفهوم السلام في القرآن الكريم… في العدد القادم، ننشر إن شاء الله، النقطتين الأخيرتين؛ الرابعة، وتتضمن: “شروط تحقق السلام الاجتماعي في القرآن الكريم”، والخامسة، وتتضمن: “خاتمة في (قل إن هدى الله هو الهدى)”.

أ.د. الشاهد البوشيخي
————-
(ü) من محاضرة ألقيت بمركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بوجدة، أعدتها للنشر: “المحجة”.
1 – سبق التعريف بجهود هؤلاء الثلاثة في مجال دراسة ألفاظ القرآن الكريم في الجزء الأول من المحاضرة، المنشور في العدد السابق.