“جَوامِعُ الْكَلِمِ”: وآيَةُ “الْجَوامِعِ” إيجازُ اللَّفْظِ وتَناسُبُ الـْمَعاني واتِّساعُها (1)


 

“جَوامِعُ الْكَلِمِ” صِفَةٌ بَلاغِيَّةٌ مَخْصوصَةٌ، انْفَرَدَتْ بِها أَحاديثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ كَلامِ الْعَرَبِ شِعْرِهِ وَ نَثْرِهِ . وَ هِيَ الصِّفَةُ التي وَرَدَتْ في الْحَديثِ الذي رَواهُ أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنّه قالَ : ((بُعِثْتُ بِجَوامِعِ الْكَلِمِ، ونُصِرْتُ بِالرُّعْبِ(2)، وبَيْنَما أَنا نائِمٌ رَأَيْتُني أُتيتُ بِمَفاتيحِ خَزائِنِ الأَرْضِ(3)، فَوُضِعَتْ في يَدي ؛، قالَ أَبو هُرَيْرَةَ : فَقَدْ ذَهَبَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَ أَنْتُمْ تَلْغَثونَها -أَوْ تَرْغَثونَها- أَوْ كَلِمَة تُشْبِهُها(4). و عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ أيضاًعَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ : ((ما مِنَ الأَنْبِياءِ نَبِيٌّ إِلاّ أُعْطِيَ مِنَ الآياتِ ما مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، و إِنَّما كانَ الذي أوتيتُهُ وَحْيًا أَوْحاهُ اللهُ إِلَيَّ، فَأَرْجو أَنْ أكونَ أَكْثَرَهُمْ تابِعًا يَوْمَ الْقِيامَةِ))(5) .

- رِواياتٌ أُخْرى لِحَديثِ “جَوامِع الكَلِم” :

((“أوتيتُ جَوامِعَ الكَلِمِ و اخْتُصِرَ لِي الكَلامُ اخْتِصاراً” رَواه العَسْكَرِيّ في الأمْثال عَن جَعفَرِ بْنِ مُحمّدٍ عَن أبيه مُرْسَلاً بِهذا اللّفظِ، لكِنْ في سَنَدِه مَنْ لَمْ يُعْرَفْ، ورَواه الدَّيْلَمِيّ بِلا سَنَدٍ عَنِ ابنِ عَباس رَفَعَه بِلَفْظِ “أُعْطيتُ جَوامِعَ الكَلِمِ”، واخْتُصِرَ لي الكَلامُ اخْتِصاراً ورَواه الشَّيخانِ لكِنْ بِلَفْظِ “بُُعِثْتُ بِجَوامِعِ الكَلِمِ”، وفي خَبَرِ أحْمَدَ “أوتيتُ فَواتِحَ الكَلِمِ وخَواتِمَه وجَوامِعَه”، و رَوى البَيْهَقيّ عَن عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ أنّه مَرَّ بِرجُلٍ يقرأُ كِتاباً مِنَ التَّوْراةِ فَذُكِرَ للنّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقالَ : “إنَّما بُعْثْتُ فاتِحاً و خاتِماً وأُعْطِيتُ جَوامِعَ الكَلِمِ وفَواتِحَه واخْتُصِرَ لي الحَديثُ اخْتِصاراً” . و لأبي يَعْلى عَنْ خالِدِ بْنِ عَرْفَطَةَ قالَ : كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ فَجاءَ رَجُلٌ فَذَكَرَه وفيه فَقالَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : “يا أيُّها النّاسُ أوتيتُ جَوامِعَ الكَلِمِ وخَواتِمَه واخْتُصِرَ لي الكَلامُ اخْتِصاراً”. و في رِوايَةِ ابْنِ سيرينَ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ: “أُعْطِيتُ فَواتحَ الكَلِمِ”، و في أخْرى “أعْطِيتُ مَفاتيحَ الكَلِمِ”، و في أخْرى: “أعْطِيتُ جَوامِعَ الكَلِِمِ”، وفي حَديثِ أبي موسى : “أعْطِيتُ فَواتِحَ الكَلِمِ وخَواتِمَه”، قُلْنا يا رَسولَ الله عَلِّمْنا مِمّا عَلَّمَكَ الله، فَعَلَّمَنا التَّشَهُّدَ، و رَواه أيْضاً في المُخْتارَةِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ بِلَفْظٍ آخَرَ مَعَ بَيانِ سَبَبِ وُرودِه، قالَ عُمَرُ : فَانْطَلَقْتُ أنا فَانْتَسَخْتُ كِتاباً مِنْ أهْلِ الكِتابِ ثُمَّ جِئْتُ بِه في أديمٍ فَقالَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم : ما هذا في يَدِكَ يا عُمَرُ؟ قُلْتُ يا رَسولَ الله كِتابٌ نَسَخْتُه لِنَزْدادَ بِه عِلْماً إلى عِلْمِنا، فَغَضِبَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم حَتّى احْمَرَّتْ وَجْنَتاه ثُمَّ نودِيَ بِالصَّلاةِ جامِعَةً فَقالَتِ الأنْصارُ : أُغْضِبَ نَبِيُّكُمْ، السِّلاحَ السِّلاحَ، فَجاؤوا حَتّى أحْدَقوا بِيَمينِ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقالَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم : يا أيُّها النّاسُ إنّي أوتِيتُ جَوامِعَ الكَلِمِ وخَواتيمَه واخْتُصِرَ لي الكَلامُ اخْتِصاراً، ولَقَدْ أتَيْتُكُمْ بِها بَيْضاءَ نَقِيَّةً فَلا تَتَهَوَّكوا و لا يَغُرَّنَّكُمُ المُتَهَوِّكونَ . قالَ عُمَرُ: فَقُمْتُ فَقُلْتُ : رَضيتُ بالله رَبّاً و بالإسْلامِ ديناً و بِكَ رَسولاً، ثُمَّ نَزَلَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم انتهى. والمُتَهَوِّكُ المُتَحَيِّرُ ؛(6) . و رَوى البَيْهَقِيّ : + “بُعِثْتُ بِجَوامِعِ الكَلِمِ واخْتُصِرَ لي الكَلامُ اخْتِصاراً”: رَواه في الشّعب و أبو يَعْلى عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ، ومَضى بأبْسَطَ في “أوتيتُ جَوامِعَ الكَلِمِ”، وقالَ ابنُ شِهابٍ فيما نَقَلَه البُخاريّ في صَحيحِه: بَلَغَني في “جَوامِعِ الكَلِِمِ” أنَّ الله يَجْمَعُ لَه الأمورَ الكَثيرةَ التي كانَت تُكْتَبُ في الكُتُبِ قَبلَه الأمرَ الواحدَ والأمْرَينِ ونَحوَ ذلكَ، و قالَ سُلَيمانُ النّوفليّ : كانَ يَتَكَلَّمُ بالكَلامِ القَليلِ يَجْمَعُ بِه المَعانِيَ الكَثيرةَ، و قالَ بَعْضُهُم : يَعْني القرآنَ بِقَرينَةِ قَولِه: “بُعِثْتُ”، و القُرْآنُ هُوَ الغايَةُ في إيجابِ اللَّفْظِ و اتِّساعِ المَعْنى، و قالَ آخَرونَ: هُوَ القُرآنُ وغَيرُه مِمّا أوتِيَه في مَنْطِقِه بِتَبَيُّنٍ مِنْ غَيرِه، بالإيجازِ والإبْلاغِ والسَّدادِ بِدَليلِ : “كانَ يُعَلِّمُنا جَوامِعَ الكَلِمِ وفَواتِحَه”))(7) .

أَمّا اشْتِقاقُ الْكَلِمَةِ فَمِنَ الْجَمْعِ، والْجامِعُ في أَسْماءِ اللهِ تَعالى هُوَ الذي يَجْمَعُ الْخَلائِقَ لِيَوْمِ الْحِسابِ، و قيلَ هُوَ الْمُؤَلِّفُ بَيْنَ الْمُتَماثِلاتِ و الْمُتَبايِناتِ والْمُتَضادّاتِ في الْوُجودِ . و فيهِ : ((أوتيتُ جَوامِعَ الْكَلِمِ ؛ يَعْني الْقُرْآنَ، جَمَعَ اللهُ بِلُطْفِهِ في الأَلْفاظِ الْيَسيرَةِ مِنْهُ مَعانِيَ كَثيرَةً، و واحِدُها جامِعَةٌ، أَيْ كَلِمَة جامِعَة، و مِنْهُ الْحَديثُ في صِفَتِهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كانَ يَتَكَلَّمُ بِجَوامِعِ الْكَلِمِ، أَيْ أَنَّهُ كانَ كَثيرَ الْمَعاني قَليلَ الأَلْفاظِ . و في حَديثٍ آخَرَ : كانَ يَسْتَحِبُّ الْجَوامِعَ مِنَ الدُّعاءِ، وهِيَ التي تَجْمَعُ الأَغْراضَ الصّالِحَةَ والْمَقاصِدَ الصَّحيحَةَ، و الثَّناءَ عَلى اللهِ والأَدَبَ في الْمَسْأَلَةِ . و مِنْه حَديثُ “الْخَمْر جماعُ الإِثْمِ”، أَيْ مَجْمَعُهُ ومَظنَّتُهُ. ومِنْهُ أَنَّ الْبَهيمَةَ تُنْتَجُ بَهيمَةً جَمْعاءَ أَيْ سَليمَةً مِنَ الْعُيوبِ مُجْتَمِعَةَ الأَعْضاءِ كامِلَتَها . ومِنْ ذلِكَ صِفَتُهُ صلى الله عليه وسلم إِذا مَشى مَشى مُجْتَمِعًا، أَيْ شَديدَ الْحَرَكَةِ قَوِيَّ الأَعْضاءِ غَيْرَ مُسْتَرْخٍ في الْمَشْيِ(8) .

فَتَبَيَّنَ مِنْ خَصائِصِ مادَّةِ ” الْجَمْعِ ” اللُّغَوِيَّةِ، أَنَّها تَنْصَرِفُ إِلى مَعْنى الاسْتيفاءِ والاسْتيعابِ و السَّلامَةِ و الإِحْكامِ، و كُلِّ ما يُسْتَغْنى بِقَليلِهِ عَنْ كَثيرِهِ …

—————

1- مَقاصِدُ الْبَلاغَةِ و خُلاصَتُها هِيَ بَيانُ مَواضِعِ الْجَمْعِ و الإيجازِ، و دِراسَتُها، فَقَدْ (( سُمِّيَ “عِلْم الْمَعاني” لأَنَّ مَسائِلَهُ تُعَلِّمُكَ كَيْفَ تُفيدُ مَعاني كَثيرَةً في أَلْفاظٍ قَليلَةٍ، إِمَّا بِزِيادَةِ لفْظٍ قَليلٍ يَدلُّ على معْنىً حقُّه أن يُؤَدّى بجُملٍ مثْل صيغةِ “إِنَّما” في الحصرِ، وكلمةِ “إِنَّ” في التَّأْكيدِ و ردِّ الإنكارِ معًا، و إمّا بأنْ لا يَزيدَ شيْئًا ولكنَّه يُرتِّبُ الكلامَ على كيْفِيَّةٍ تُؤدّي بذلكَ التّرتيبِ معْنًى زائِدًا… و هذا الفنُّ هو معظَمُ عِلْمِ البَلاغَةِ…)) : (موجَزُ الْبَلاغَة: 5)، مُحمّد الطّاهِر بن عاشور، ط./1، المطْبعةُ التّونُسِيّة، تونُس .

2- الرُّعْبُ الْفَزَعُ و الْخَوْفُ، و ذلِكَ أَنَّ أَعْداءَ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ و سَلَّمَ كانَ قَدْ أَوْقَعَ اللهُ في قُلوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَإِذا كانَ بَيْنَهُ وبَيْنَهُمْ مَسيرَةُ شَهْرٍ هابوهُ و فَزِعوا مِنْهُ، فَلا يقْدِمونَ عَلى لِقائِهِ .

3- مَفاتيحُ خَزائِنِ الأَرْضِ : ما سَهَّلَ اللهُ لَهُ ولأُمَّتِهِ مِن اسْتِخْراجِ الْمُمْتَنِعاتِ و افْتِتاحِ الْبِلادِ الْمُتَعَذِّراتِ. و مَنْ كانَ في يَدِهِ مَفاتيحُ شَيْءٍ سَهَّلَ اللهُ عَلَيْهِ الْوُصولَ إِلَيْهِ .

4 – صَحيحُ البُخارِيّ: 6/2654)، بابُ قَوْلِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: “بُعِثْتُ بِجَوامِعِ الكَلِمِ”، رقم الحَديث: 6845، الحديث: 7273، (فَتح الباري بِشرْح صحيحِ البخاري: 12/261) لأحمدَ بنِ حَجَر العَسْقَلانِيّ، ت. محبّ الدّين الخطيب، محمّد فؤاد عبد الباقي، قُصيّ محبّ الدّين الخطيب، المطبعة السّلفيّة، القاهرة، ط/3، 1407هـ، كِتاب الاعْتِصام بِالْكِتابِ والسُّنَّة، الحديث: 7273، والحديث أوردَه البخاري في كتاب الجهاد، باب قولِ   النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ و سَلَّمَ : “نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ”، و في كِتابِ التّعْبيرِ في باب رُؤْيا اللّيلِ بِلفظِ : “أُعْطيتُ مَفاتيحَ الْكَلِمِ” . و في باب المَفاتيحِ في اليد، و في كتابِ الاعْتِصامِ، في بابِ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : “بُعِثْتُ بِجَوامِعِ الْكَلِمِ”، وأورَدَه الدّارقُطنِيّ في السُّنَنِ بلفْظِ : “أُعْطيتُ جَوامِعَ الْكَلِمِ” و اختُصِرَ لي الحديثُ اختِصارًا”. وأوردَهُ ابْنُ كَثير في البداية و النّهاية بِلَفْظِ : “أَيُّها النّاسُ إِنّي قَدْ أوتيتُ “جَوَامِعَ الْكَلِمِ”= = وخَواتيمَهُ و اخْتُصِرَ لي اخْتِصارًا”. و قَولُه : تَلْغَثُونها أي تأكُلونها مِن اللَّغيث وهو طَعام يُغْلَث بالشعير، ويُرْوَى تَرْغَثُونها أي تَرْضَعونَها: [النّهايَةُ في غَريبِ الحَديثِ و الأثر: 4/256.

5 – صَحيح البُخارِيّ: 4/1905): كِتابُ فَضائِلِ القُرْآنِ، بابُ كَيفَ نُزولُ الوَحْيِ و أوّل ما نَزَلَ . (صَحيح مُسْلِم: 1/134) : بابُ وُجوبِ الإيمانِ بِرِسالَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إلى جَميعِ النّاسِ ونَسْخِ المِلَلِ بِمِلَّتِه.

- فَتْحُ الباري بِشَرْحِ صَحيحِ الْبُخاريّ: 12/261، كِتاب الاعْتِصام، حديث: 7274.

6 – كَشْفُ الخَفاءِ و مُزيلُ الإلْباسِ عَمّا اشْتهرَ مِنَ الأحاديثِ عَلى ألْسِنَة النّاسِ: 1/14-15.

7 – كَشْفُ الخَفاء: 1/340.

8 -اَلنِّهايَةُ في غَريبِ الحَديثِ و الأَثَرِ: 1/295-296-297.

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>