قال الله جلت حكمته : {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد. لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد. وقال قرينه هذا ما لدي عتيد.ألقيا في جهنم كل كفار عنيد مناع للخير معتد مريب الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد. قال قرينه ربّنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد. قال لا تختصموا لديّ وقد قدّمت إليكم بالوعيد. ما يُبدّل القول لديّ وما أنا بظلاّم للعبيد. يوم نقول لجنّم هل امتلأت وتقول هل من مزيد .وأُزلفت الجنة للمتقين غير بعيد. هذا ما توعدون لكلّ أوّاب حفيظ. من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب. ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود. لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد}(16- 35 ).
الهدى المنهاجي
وهو في الرسالات الخمس التالية :
الرسالة الأولى : في أن الشعور برقابة الرحمن، والإحساس القلبي الدائم بوجود الملكَيْن الكاتِبَيْن، عن اليمين وعن الشمال قعيد؛ من أهم حقائق الإيمان، ومن أجلّ ثمراته. ورغم أن ذلك داخلٌ في ركن الإيمان بالملائكة على الإطلاق؛ إلا أن الإنسان في غمرة الحياة اليومية ينسى وجود الملكَيْن الكاتِبين خاصة، ويفقد الشعور بملازمتهما إياه على كل حال! ولو تذكر ذلك حق التذكر، واستحضر هذه الحقيقة كأنما يراها، وعاش مستأنسا بهما ليله ونهاره؛ لما جرؤ على الوقوع في الزّلات، واكتساب السيئات! ولصَفَتْ خواطره كلها للّه، بسبب ما يجد في قلبه من توجيه إلى الخير.
الرسالة الثانية : في أن الكلمة في الإسلام مسؤولة! وأن القول -أي قول- يلقيه القائل، مُلتَقَط من فمه، مسجّل في صحيفته، إما له وإما عليه! وهذا من أعظم حقائق الإيمان وأرهبها! ولو أن المؤمن اعتصم بهذه الحقيقة في حياته؛ حفظاً للسانه من الزلات، فلا ينطق إلا بالخير، ولا يتكلم إلا بالحق؛ لتحقق -إن شاء الله- بمقام الصديقين. وقد عُلم أن النبي صلى الله عليه وسلم حذر أصحابه في غير ما وصية من حصائد اللسان! ففي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه :((قُلت : يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلّم به؟ فقال : ثكِلتك أمّك يا معاذ! وهل يكبّ الناس في النّار على وجوهِهم إلا حصائد ألسنَتِهم))(1). وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((إن العبْد ليتكلّم بالكلِمة من رضوان الله، لا يُلقي لها بالاً؛ يرْفَعُه الله بها درجات! وإنّ العبد ليتكلّم بالكلمة من سخط الله، لا يُلقي لها بالا؛ يهْوي بها في جهنم!))(2)، وعن بلال بن الحارث المُزنيّ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((إن الرّجل ليتكلّم بالكلِمة من رضوان الله عز وجل، ما يظنّ أن تبْلُغ ما بلغَتْ؛ يكْتب الله عز وجل له بها رضْوانه إلى يوم القيامة! وإنّ الرجل ليتكلّم بالكلمة من سخَط الله عز وجل، ما يظُنّ أن تَبلغ ما بَلَغت؛ يكتب الله عز وجل بها عليه سخطه إلى يوم القيامة))(3) (فكان علْقمة يقول : كم من كلامٍ قد منَعَنِيه حديث بلال ابن الحارث!).
الرسالة الثالثة : في أن مجاهدة وسواس النفس من أعظم الجهاد! وأن بقاء خواطر الشيطان حبيسة الوساوس الباطنية معناه أن الشيطان مهزوم مدحور، وأن المؤمن المتعرض لذلك منصور بالله؛ ولذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم حاله تلك بأنها ((محض الإيمان!)) وفي رواية أخرى قال : ((ذاك صريح الإيمان!)) فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة؛ قال : ((تلك محضُ الإيمان!))(4)، ومن ثم أشار النبي صلى الله عليه وسلم -في حديث آخر- إلى أن ذلك دال على هزيمة الشيطان، واندحار كيده، وانخناسه في ظلمات الوسوسة! فعن ابن عبّاس رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله! إنّى أُحدِّث نفْسي بالشّيء؛ لأن أخِرّ من السّماء أحبُّ إليّ من أن أتكَلّم به! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((الله أكْبر! الله أكْبر! الله أكبر!.. الحمد لله الذي ردّ كيدَه إلى الوسْوسة!))(5). وفي هذا فائدة تربوية جليلة مفادها : أن المتعرض للوسواس القهري في عقيدته أو عبادته، يُشفى منه -بإذن الله- بمجرد ما يرسخ في ذهنه أن ذلك الوسواس وضع طبيعي، بل مكسب إيجابي صحي، محسوب له لا عليه! ومن ثم تسري الطمأنينة في النفس، وينتصر في القلب السلام والأمان! فيخنس الوسواس بصفة نهائية بإذن الله.
الرسالة الرابعة : في أن الشعور الدائم بوجود القرين الشيطاني، الملابس للإنسان على كل حال، هو من أهم دواعي الحذر من الوقوع في الخطايا والزلات، وهو من أكبر العوامل المساعدة على مواجهة الشر، وطرد خواطر السوء من النفس، والتصدي لإملاءاتها الخبيثة. كما أنه يساعد على معاكسة شهوات النفس، الراغبة في الاستجابة لما زينه لها القرين من الغواية والحرام. وهذا من أهم الثمرات الإيمانية لحقائق العقيدة الإسلامية، التي جعلت قضية الشيطان وقَبِيله من شياطين الجن، من أهم قضايا الإيمان؛ ولذلك فإن القرآن الكريم لم يفتأ يكشف عن طبيعة الشيطان، ويصف خطواته وحركته، ويفضح كيده للإنسان في غير ما موطن من آياته وسوره؛ حتى يكون المؤمن على بال من هذا العدو اللعين! أعاذنا الله وإياكم منه! والقرين من أخطر أنواع الوجود الشيطاني، بسبب ملابسته الدائمة للإنسان. ومن ثم كان الإيمان بهذه الحقيقة بصيرة عظمى للمؤمن السائر إلى ربه. ومن هنا فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم لزوم القرين الشيطاني لكل بني آدم؛ وذلك حتى يكون المؤمن على وعي شعوري دائم بهذه الحقيقة الابتلائية الكبيرة؛ فيتجرد لها تجرداً؛ عساه يكون من الغالبين بإذن الله، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((ما مِنْكُم من أحدٍ إلاّ و قد وُكِّل به قرينُه من الجنّ!)) قالوا : وإيّاك يا رسول الله؟ قال : ((وإىّايَ إلاّ أن الله أعاننِي عليه فأسْلَم؛ فلا يأمُرني إلا بخَيْر!))(6).
الرسالة الخامسة : في أن حقيقة الآخرة بما فيها من حساب ومصير، من أعظم الحقائق الإيمانية والوجودية! لكنها حقيقة محجوبة عن الأعين، وإنما تُتلقى من الوحي! ولا ينكشف منها شيء إلا بالدخول في أول غمرات الموت! فهنالك ينكشف الغطاء الدنيوي الحاجب للغيب الأخروي، ويبصر الإنسان عياناً طبيعة المصير الذي ينتظره، ولكن بعد فوات الأوان؛ إذ لا قبول لإيمان بعد انكشاف الحُجُب! وإنما يُسمّى الإيمان ((إيماناً)) إذا تعلق بتصديق حقيقة غائبة، أو أمر مستقبل! ومن ثم فإن معرفة أخبار الآخرة -بكل تفاصيلها- من أهم ما يجب على المؤمن التزود منه؛ لتقوية إيمانه، وحمل النفس على مشاق الطريق، سيراً إلى الله بالرّغب والرّهب.
مـسـلـك الـتـخـلـق
أما مسلك التخلق ههنا فهو دائر حول التحقق بطريق النجاة، والثبات على منهاجها، وعدم الحيد عنه حتى لقاء الله تعالى. وهو مسلك راجع إلى مجاهدة النفس على منازل إيمانية خمسة، مجموعة في قوله تعالى، مما تدارسناه : ((وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد. هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ. من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب مُنيب} وقد تم تفصيلها في البيان العام بما يكفي إن شاء الله. لكننا نبين هنا معالم المسلك العملي للتحقق بصفاتها وخصالها :
أما المنزل الأول : فهو يتأسس على التحقق بالتقوى. ومسلكه العملي هو الاستحضار الدائم لعظمة الله، والتذكر اليومي لحقيقة الموت، ومآلات الآخرة. ولقد بينا أن على المؤمن أن يداوم على تغذية القلب بعلم الآخرة، وأن يحرص على طلب حقائقها الإيمانية بالتفصيل، مما ثبت خبره بالكتاب والسنة الصحيحة؛ ولذلك ما فتئ النبي صلى الله عليه وسلم يُذكِّر أصحابه باليوم الآخر، ويصور لهم قرب الساعة بما يجعلهم يفزعون إلى الله، ويجأرون إليه طلباً للأمان! فعن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه -وغيره- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((كيْف أنْعم وصاحب القرن قد الْتقم القرْن، واسْتمع الإذن متى يُؤمر بالنّفخ فيُنفخ؟))، فكأن ذلك ثقُل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال لهم : ((قُولُوا : حسْبُنا الله ونِعْم الوكيل، على الله توكّلنا!)) وفي رواية ابن عباس رضي الله عنه : ((وحنّى جبْهَتَه يسَّمّع متى يُؤمر فينْفُخ!))(7)، وقد جعل الرحمن مقام التقوى المطلوب للنجاة والفوز ههنا، مبنيّا على التخلق بأربع صفات، تتم بها للمؤمن خمسة منازل، وإنما هي بعضها من بعض، وبعضها مبني على بعض، وبيان ذلك هو كما يلي :
المنزل الثاني : يتأسس على التخلق بوصف الأوْب الدائم إلى الله. وقد تبين أن معنى ((الأوّاب))، هو العبد المتحقق بعمران القلب بمعرفة الله. فمن عرف الله حقّاً اشتاق إليه، ومن اشتاق إلى مولاه كان أوّابا! كثير الرجوع إلى سيده، كثير الطّرق لبابه بنوافل الخيرات والصلوات. ولعل من داوم على صلاة الضحى ذاق هذا المعنى الكريم.
وأما الثالث : فهو منزل الحفظ. و((الحفظ)) وصف يتحقق لصحابه كلما تذكر عهد الله، وعلم :أنه ميثاقٌ غليظ! وأن نقضه من المهلكات! فعمل على ذلك حياتَه كلها.
وأما الرابع : فهو الخشية. و((خشية الرحمن بالغيب)) تحصل لصاحبها بمداومة الذكر، ومدارسة القرآن؛ طلباً لمعرفة مقام الرب العظيم، والعلم به جل جلاله! ثم بصحبة أهل الخشية من الربانيين، ومشاهدة أحوالهم.
وأما الخامس : فهو الإنابة. وتحصل ((إنابة القلب)) للعبد بحصر التوجه إلى قِبْلة واحدة لا غير، والتعلق بمقصود واحد لا غير، فلا يلتفت القلب إلى شيء سوى الله. ثم يجاهد العبد نفسه ليشغلها بالله، وبالله فقط، وليجعل همه -كل همه- هو الله والدار الآخرة! وعلى قدر نجاح المؤمن في هذا يكون تدرجه بمسلك الإنابة. تلك مدارج خمسة من تحقق بمنازلها رجا -إن شاء الله- أن يكون من الناجين الفائزين بجنات النعيم، المكرمين بما فيها من مزيد. فاللهم إنا نسألك الثبات على الهدى، حتى نلقاك راضين مرضيين، لا مبدلين ولا مغيرين! ونسألك ربنا أن تدخلنا في رحمتك برحمتك، وأن لا تحرمنا النظر إلى وجهك الكريم، آمين.
فريد الأنصاري رحمه الله تعالى
—-
1- جزء من حديث رواه أحمد والترمذي، وابن ماجة والحاكم والبيهقي والطبراني.
2- متفق عليه.
3- رواه أحمد في الموطأ، وأحمد، والترمذي، وابن ماجة، والحاكم وابن حبان والبيهقي والطبراني.
4- رواه مسلم.
5- رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وصححيه الألباني في تحقيق سنن أبي داود، وفي ظلال الجنة، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط : ((إسناده صحيح على شرط الشيخين)).
6- رواه مسلم.
7- هذا حديث صحيح يكاد يكون متواتراً، فقد أخرجه أحمد، والترمذي، ابن حبان، والحاكم عن أبي سعيد الخدري، وأخرجه أحمد والحاكم عن ابن عباس، وأخرجه أيضاً أحمد والطبراني عن زيد بن أرقم….