مع سنة رسول الله – نصرة الـمظلوم وإقامة العدل حق قامت عليه السموات والأرض(2/1)


حدثنا مسدد حدثنا معتمر عن حميد عن أنس ] قال : قال رسول الله : >اُنصر أخاك ظالما أو مظلوما، قالوا يا رسول الله هذا : ننصره مظلوما، فكيف ننصره ظالما، قال تأخذ فوق يديه<(1).

نـصـر الـمـظـلـوم

إذا كان النصر من عند الله تعالى يشمل حقيقة النصر بكل معانيه وأبعاده ومظاهره… فإن النصر من المسلم لأخيه المسلم لا يعدو كونه مظهرا من مظاهر الطاعة لله تعالى فيما أوجب من براهين المحبة والرحمة التي تتفرع عن الإدراك العميق لمعاني الأخوة. فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ((المسلم أخو المسلم لا يكذبه ولا يخذله ولا يسلمه…)). وقال تعالى: {إنما المومنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون} وقال صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد…)). > والمؤمن مرآة أخيه. وهذا الأمر كما يصدق على الأفراد يصدق على الجماعات. إن معاني الخلق العظيم الذي شرف الله به نبيه صلى الله عليه وسلم تتجلى -في شقها الناظم للعلاقات بين المسلمين- في الرحمة والتواضع والنصيحة والمحبة.

وهذه المعاني العظيمة التي تعتبر السدى الجامع لأفراد المجتمع المسلم متقاطعة ويعسر في أحيان كثيرة تحديد الخط الفاصل بين معنى وآخر. وهي في نفس الوقت مترابطة لا يتصور وجود إحداها دون الآخر كيف يتصور وجود الرحمة دون المحبة؟ أو وجود النصيحة دون الرحمة والمحبة؟ وإن وجدت فلا تنفع كما لا تنفع النصيحة دون التواضع.. ويبعد خلوها عنه إلا بخلوها عن الرحمة والمحبة والمودة… كما أن هذه المعاني في تقاطعها وترابطها ليست نظريات نقدمها مجردة لنفسح المجال للعقل كي يتصورها في عالم المثاليات: إنما جاء بها الإسلام وأصّل لها وبيّن أحكامها وحِكمها ومجالاتها وجزاءها… وبعث بها الأسوة الحسنة صلى الله عليه وسلم لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وحوّلها إلى واقع تتفاعل معه العقول والأرواح ويترك أثره العميق في العام والخاص وفي الآفاق والأنفس. غير أن هذه المعاني فيما بينها تنتظم في شبكة تشريعية لا تنافر بينها ولا تعارض، إنما تتعانق حلقاتها ويسلم بعضها لبعض ويكمل بعضها بعضا وفق قواعد وكليات وأصول لا يشذ منها فرع واحد. فالإحسان مطلوب في كل شيء وهو من أعظم الصفات {والله يحب المحسنين}.

ولكن العدل قبله في المرتبة فلا يتصور وجود إحسان بدون عدل. والوقوف إلى جانب الأخ المسلم في محنته وإعانتُه مطلب شرعي(2) ولكن الحق أحق أن ينصر(3) والعهد أحق أن يصان(4) وهو مقدم على القرابة والعصبة والجنس إذا كان عونهم يؤدي إلى باطل فما جاء الشرع إلا لإحقاق الحق. وبناء على هذا كله فإن نصر المسلم لأخيه المسلم، ونصر الضعيف المغلوب على حقه أو عرضه أو حرمته… لا يتيح له اللجوء إلى كل الوسائل لأن المسلم -بحكم انتمائه لهذا الدين وهذه الأمة- يجب أن يتنزه عن امتطاء الدفاع عن حق خاص أو عام ليتنصل من الاتزان في الكلام والوسائل، فلا يلجأ إلى البذاءة في الكلام ولا إلى السباب ولا إلى إشهار السلاح في وجه أخيه المسلم: “والمجتمع المسلم يجب أن ينظف من هذه التصرفات وهذا الفضول ومنازعة الأمر أهله”(5). الإنسان المسلم -وهو جزء من هذه الأمة- يجب أن يعكس مبادئها الكبرى فهو محكوم في تصرفاته من جهة الغايات والمقاصد وأيضا من جهة الأدوات والوسائل. ولما كانت الغايات شريفة -نصرة الحق وتقليم أظافر البغي- فإن الوسائل يجب أن تكون على نفس الدرجة من الشرف، فلا ينصر الحق إلا بالحق، والحق يأبى أن ينصر بالباطل: والغاية لا تبرر الوسائل(6). وبناء على كل ما تقدم فإن نصر المسلم لأخيه مظهر من مظاهر الخلق العظيم من قبيل المحبة والمودة والرحمة: ولكنه لا يتعارض مع المبادئ الكبرى كالعدل وإحقاق الحق: كما لا يتيح الإسراف في القول أو الفعل أو الوسائل. العدل قيمة إنسانية إن نصر المظلوم وإقامة العدل هو من الحق الذي قامت عليه السماوات والأرض. والأمر به مطلق في الزمان والإنسان قال الله تعالى: {يا داوود إنا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله}. فالحق أحق أن يتبع وليس بعد الحق إلا الضلال. . للصداقة مقتضياتها وللعداوة مقتضياتها والعدل فوقهما يتجاوزهما ولا يؤثران عليه {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}(المائدة : 9). والعدل ونصرة المظلوم لا يقتصر طلبه في حالة الحكم على الناس بل أيضا في حالة الحكم على النفس وأقرب الناس: قال الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين}(النساء : 135).

ولو كان الظالم أفقر الناس والمظلوم أغنى الناس فالميل عن العدل من الهوى والوقوف إلى جانب الظالم لا يسوغه أي شيء قال تعالى: {إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا} والله تعالى هو الحق سبحانه وقد كلف الإنسان بإقامة الحق تكليفا شرعيا متمثلا في إنصاف المظلوم وتأديب الظالم… لكن هذا التكليف تعترضه عوائق في أحيان كثيرة من قبيل الجهل والهوى والغفلة والعجز… الجهل بالحكم وعدم الاهتداء إلى الميزان، وقد يعلم الإنسان ذلك ولكن يعترضه الهوى: الرغبة فيميل إلى الظالم رغبة فيما عنده أو محبة فيه أورهبة من بطشه… وقد لا ينتبه إلى المظلوم أو لا يدرك أنه مظلوم أو يُحال بينه وبين البتّ والإعراب عن وقوع الظلم عليه… وقد تغيب هذه العوائق كلها ممن كلف بإقامة العدل، فيكون عالما بالحكم والحقوق والواجبات، راغبا في إقامة الحق، عالما بالمظلوم ومع ذلك يمنعه بطش الظالم وطول يده وإصراره على الظلم… في هذه الحالة وقد استفرغ الإنسان وسعه في القيام بما كلف به شرعا من إقامة الحق أو في الحالات كلها التي سبقت الإشارة إليها والتي حالت فيها أشياء دون إنصاف المظلوم وتأديب الظالم، لا يفقد المؤمن الأمل فهناك من لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، والحق سبحانه الذي وعد المظلوم بالنصر… وجاءت صيغة الوعد مؤكدة بالقسم وبلام التوكيد وبنون التوكيد الثقيلة. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا ترد دعوتهم الإمام العادل والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة وتفتح لها أبواب السماء ويقول بعزتي لأنصرك ولو بعد حين))(7).

وهذا الحديث وحده هو الذي نص على أن نصر المظلوم يكون يوم القيامة أما باقي الروايات(8) فلا تذكر وقت تحقق النصر الإلهي للمظلوم وهو ما يفيد الإطلاق من حيث الزمن. والحقيقة أن الموازين القسط إنما توضع يوم القيامة ويوقف الظالم والمظلوم ويفصل بينهما علاّم الغيوب، ويوم الحق أشد على الظالم من يوم الباطل على المظلوم. والملاحظ أن الروايات السبع للحديث ذكرت الثلاثة التي لا ترد دعوتهم وهم الإمام العادل والصائم حين يفطر ودعوة المظلوم. ولا يوجد بينها(9) إلا اختلاف بسيط في التعبير بين تقديم وتأخير(10) في الإمام العادل والصائم، أو إبدال حرف(11) أو إضافة(12).

وإذا كانت الروايات قد اختلفت في بعض العبارات المتعلقة بالصائم والإمام العادل فإنها اتفقت على عبارة “دعوة المظلوم” التي يرفعها الله فوق الغمام”(13). كما اتفقت على الجمع بين هذه الثلاثة:

الإمام العادل والصائم والمظلوم، والقاسم بينهم -فيما يبدو- إقامة الحق والعدل.

- الإمام العادل هو الذي يقمع البغاة ويردهم إلى الصواب وينصر المستضعفين ويقيم المجتمع دون ظلم ولا هضم.

- الصائم الذي يقمع شهوات نفسه.

- المظلوم الذي وقع عليه الظلم فلم ينتصر عجزا أو ترفعا فتتدخل القدرة العلية.

- تدخل القدرة العلية لنصرة المظلوم واقعة لا محالة في الوقت المناسب ومهما كان تأخر النصر فإنه لا يعني انتفاءه، فقد قال تعالى: {ولو بعد حين} إن الله تعالى لا يحب الظالمين لأنه لا يحب الظلم، ولذلك حرمه على نفسه وجعله بيننا محرما ونهانا عن التظالم، وهذا لا يعني أن الظلم لا يقع ولكن يعني أنه في حالة وقوعه وعدم وجود من يزيله وأثرَه فإن الجزاء القدري يتدخل فيفتح للمظلوم بابا للانتصار لا يستطيع أحد أن يغلقه باب الدعاء “ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماوات”(14). وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: “اتقوا دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب” إن الله تعالى وعد المظلوم بالنصر فمن ينصر المظلوم فإنه يفعل ما وعد الله تعالى به، فحقيق على الله أن ينصره ويجزيه.

- في بعض روايات الحديث(15) ورد ذكر نعيم الجنة وما أعد الله فيها من الكرامة لأهل طاعته، والعلاقة بينها وبينه ودعاء الثلاثة التي لا ترد دعوتهم هو -فيما يبدو- توجيه لهم جميعا وللمظلوم خاصة ذلك أن المظلوم أول ما يفكر فيه، إذا دعا، أن يدعو بِشرّ على من ظلمه(16) وهي لا شك همة العامة والدهماء فالحديث يوجهنا إلى ما ينفعنا لا إلى ما يضر غيرنا وإن كان الذي ظلمنا. فبدلا من الدعاء على الظالم فلندع لأنفسنا بهذا الخير الذي أعده الله لأهل كرامته في الجنة ما دام أن الدعاء لا يرد… والله أعلم.

إن الله تعالى وعد المظلوم بالنصر ووعده لا يخلف وقدرته ليس لها حد ولا تناهي لما تعلقت به من الممكنات(17).

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

 د. لخضر بوعلي

 

——-

1- حديث متفق عليه واللفظ للبخاري كتاب المظالم.

2- “والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه” جزء من حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة

3- قال تعالى {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق} (الأنفال)

4- قال تعالى {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر الا على قوم بينكم وبينهم ميثاق}(الأنفال)

5- القصاص بالكلام أو الضرب أو القتل من اختصاص القضاء وليس للمسلم الفرد إلا نصيبه من النصيحة

6- مبدأ ميكافَيلي 7- سنن ابن ماجة ج 1 / ص 557

8- أخرجه الترمذي في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه في ج 4/ص 672 وفي ج 5/ص 578 وأخرجه أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه في ص 304 وفي ج2/ص45 وأخرج الحارث في مسنده (زوائد الهيثمي) ج2/ ص 969 وإسحاق في مسنده ج 1 /ص 317 كلاهما عن أبي هريرة.

9- الروايات السبعة للحديث

10- قدم الإمام العادل على الصائم عند ابن ماجة والترمذي في إحدى الروايتين وأحمد في الروايتين، والحارث في مسنده بينما قدم الصائم في رواية إسحاق في مسنده وإحدى روايتي الترمذي

11- الصائم حتى يفطر عند ابن ماجة وإحدى روايتي الترمذي وأحمد في الروايتين وإسحاق في مسنده وجاء بعبارة حين يفطر عند الحارث في مسنده وإحدى روايتي الترمذي.

12- لا ترد دعوتهم عند ابن ماجة والترمذي في الروايتين وأحمد في إحدى الروايتين ومسند الحارث وجاءت عبارة لا يرد لهم دعوة عند إسحاق وعبارة لا يرد دعاؤهم في إحدى روايتي أحمد.

13- هذه العبارة وردت عن احمد في إحدى الروايتين وإسحاق والترمذي في الروايتين وعبارة “دون الغمام” عند ابن ماجة وعبارة “تحمل على الغمام” عند أحمد في إحدى الروايتين والحارث في مسنده.

14- هذه الرواية في سنن إسحاق بن راهويه.

15- مسند الحارث ومسند إسحاق وإحدى روايتي الترمذي وإحدى روايتي أحمد ورد في الحديث وصف الجنة في مسند الحارث قال قلنا يا رسول الله حدثنا عن الجنة ما بناؤها قال لبنة من ذهب ولبنه من فضة بلاطها المسك الإذفر وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت وترابها الزعفران من يدخلها ينعم ولا ييأس ويخلد ولا يموت ولا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه…

16- “اتقوا دعوة المظلوم فانه ليس بينها وبين الله حجاب ” وقوله صلى الله عليه وسلم ” من دعا على من ظلمه ففقد انتصر”.

17- قال الإمام اللقاني: “وقدرة بممكن تعلقت بلا تناهي هي ما به تعلقت”.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>