دراجـة حـبـيـبـة


حبيبة بنت احميدو الدباغ، طفلة في الثانية عشرة من عمرها،، تزيد أو تنقص، طويلة على سنها، إلى حد أن أمها فطومة تقارنها بسلم الجيران، نحيفة إلى حد أن والدها حين يحضنها، يعلن كل مرة بصوت وقور أن القضيب الذي كان فقيه الحي يسلخ به جلده في الكتاب كل مرة لا يمكن أن يكون أنحف منها، ويضيف: “لو كنتِ ولدا لأعنتني على الدباغة، لكن لا فائدة منك”.

حين تستمع إليها، بصوتها الخافت، تشعر أنك تسمع زقزقة عصفور، أو رقرقة جدول في يوم ربيعي دافئ، ولا يسعك إلا أن تضحك وإن لم تفهم شيئا مما تقوله.. أمها على الدوام تلعن حظها السيئ في إنجابها، وتردد في كل مناسبة وبغير مناسبة: “اعتقدت لما ولدتها أنها ستكون امتدادا لي، كنت في سن العاشرة حين بدأت أدير عقول فتيان الحي”، وتهز رأسها وتلوي شفتيها وتزيد: “لا هم لها سوى اللعب بتلك الدراجة الصدئة، تفككها وتعيد تركيبها لتفككها من جديد،، آه لو كانت تهتم بجسدها، ككل فتيات الحي، كما تلعب..”، وتعلو أمارات الحسرة على وجهها، وتضيف: “لو كانت على الأقل مثل أختها حليمة، صحيح أنها لا يعجبها أن تلبس إلا الجين، لكن تحرص على أن تلبس القمصان الضيقة الجميلة” ثم تغمز بعينها وهي تشد قامتها، وتسأل من يكون بجوارها: “ألا تشبهني؟ حتما حليمة تشبهني”. ولأن حبيبة بنت احميدو لا تجيد إلا اللعب بالدراجة، ولا يستطيع أحد أن يكشف مزاجها أو حالتها النفسية، ولا يهتم أحد بذلك، فإنك لا تراها إلا منكبة على دراجتها تصلحها، وهي تصفر، أو تضع حبلا فيها، ثم تربطه في وسطها وتجري بها بشكل دائري، وهي تصيح بصوت متلعثم: طو..طو..ط.. وفي كل مرة تكون فيها أمها في البيت، تنهرها بشدة، “اسكتي”، لكنها لا تسكت، فتأخذ أمها الدراجة وترميها على الأرض، فتتوقف حبيبة لحظات ترمقها بنظرات مبهمة، ثم تأخذ دراجتها وتعيد تثبيتها، وتستمر في لعبتها، وكلما ازداد نهرها لها، يزداد صياحها ويزداد دورانها، حتى تشدها من رأسها، وتخرج غاضبة، متوجهة نحو بيت الجيران لتثرثر معهم، صافقة الباب وراءها بعنف. وحين يخلو البيت، ترى حبيبة تهرع إلى كتاب كبير مصور، لا يعلم أحد من أين أتت به، وتظل تقلب صفحاته، متحدثة مع صوره.

في هذا المساء، كانت حبيبة كعادتها في فناء الدار تصلح دراجتها، تابعت أختها للحظات وهي ترتدي ثيابها، رأتها تضع خاتما وسلسلة بلون الذهب، وتسرح شعرها القصير، وتتوجه نحو الباب دون أن تلقي نظرة عليها. قالت لها: “أُأُريد أَأَن أَأَخْخْرُرُجَجَ مَمَعك..” رمقتها بنظرة مستهزئة: – “تخرجي معي؟؟ أنا؟؟ لم؟؟ بلهاء..” رمتها بالمشط الذي كان ما يزال في يدها، وقع على رأس حبيبة، خرجت منها صيحة عالية، وانطلقت بالبكاء بصوت مرتفع. خرجت أمها من غرفتها تتوعد وتصرخ: “ما الأمر؟ لا تتركان الواحدة ترتاح قليلا أمام المسلسل؟..” فتحت حليمة الباب قائلة: “هذه هي المرة الثانية وأنت تشاهدين ذاك المسلسل”.

رمت عليها فردة الشبشب المهترئة: “ماشي شغلك”، لكن الفردة ضربت الباب، بعد أن صفقتها حليمة بقوة، وخرجت. صرخت الأم: “اسكتي أنت”، ازداد صراخ حبيبة وأمها تشدها من شعرها، وتضربها بيديها في كل موضع من جسمها، حتى تعبت، وتوجهت نحو التلفاز تزيد من صوته. انكبت حبيبة على دراجتها تثبت الحبل فيها وهي تصرخ، ثم وضعته حول وسطها، واستعدت لتدور كما تفعل دائما، لكنها تعثرت في المشط المرمي على الأرض، وسقطت، انحشرت عجلة الدراجة في ساق المقعد الكبير، حاولت النهوض، فانفلت الحبل من وسطها، وانشد على عنقها، حاولت أن تفسخه، لكنها كلما جذبته ازدادت عقدته، وتحكم حول عنقها، بدأ صوتها يخفت، وتعلو الزرقة وجهها، حاولت النهوض مرة أخرى، لكنها سقطت وعيناها جاحظتين، دون أن تسمع أمها تقول وهي تتابع المسلسل بشغف: “أنت مثل الحمارة، لا تسكتين إلا بالضرب”.

دة. سعاد الناصر

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>