سقوط الوثنية العلمية


لقد انتهى العصر الذي اتخذ العلم فيه إلهاً.. عصر الوثنية العلمية التي مسخت الإنسان وأذلّته وجعلته مجرّد تابع ذليل للقوانين والنظريات.. بل إلى مجرّد ناتج عرضي تافه مشتق من آلات رياضية هائلة لا عقل لها ولا غاية. إنه حتى العلماء المتعصّبون للنظرة القديمة، لم يعودوا يرتاحون لهذا التصوّر الكئيب، غير المعقول : الإنسان وهو يتحول إلى ناتج عرضي في كون لا هدف له ولا غاية.. لقد انتهى عصر الإيمان بتفاهة الإنسان، وأخذ العلم -وقد جاوز طفولته وخطا نحو الرشد- يقود البشرية نحو الحرية متجاوزاً بها عصر العبودية الرهيب.. وإن هذا المصير الأكثر إضاءة أخذ يلاقي ترحيباً وتهليلاً من بعض رجال العلم أنفسهم.

إن هذا التغيّر في النظرة العلمية -كما يقول سوليفان في “حدود العلم”- يبدو وكأنه حدث فجأة. إذ لم تمض ستون سنة منذ صرح : تندل ” في بلفاست بأن العلم وحده قادر على معالجة كل مشاكل الإنسان الأساسية، ولم تمض بعد عشرون سنة منذ قال “برتراند رسل” وهو يتأمل بعض الأجوبة العلمية: “إن استقرار الإنسان لا يمكن أن يبنى من الآن فصاعداً إلاّ على أسس متينة لا يتطرق إليها الفساد”. إنه وإلى الحدّ الذي تستند فيه هذه الملاحظات إلى الاقتناع بأن الحقيقة الوحيدة هي المادة والحركة، يمكن القول أن أسس هذه الملاحظات لم تثبت بعد. إن المحاولة لتمثيل الطبيعة على أنها مادة وحركة باءت بالفشل. لقد بلغت المحاولة ذروتها في أواخر القرن الثامن عشر عندما جاهر ” لابلاس “مؤكداً بأن في مقدور رياضي عظيم إلى الدرجة المطلوبة أن يتنبأ بكل مستقبل العالم لو أعطيت له معلومات كافية عن توزيع الجزئيات في السديم البدائي..”.

إن تندل ورسل ودارون وماركس ودركايم، وغيرهم كثيرون، هم أبناء عصر عبودية العلم، عصر الدهشة والإعجاب الذي يتجاوز الوقفة الموضوعية إزاء الظواهر والأشياء إلى نوع من التقبل والاندماج. لقد رأينا ـ مثلاً ـ تحوّل ” كبلر ” من عالم رياضي إلى كاهن، وهو يقف قبالة الشمس، من خلال النظرية الجديدة التي جعلتها مركزاً للكون، يقول كلمات وكأنه يرتل في أحد معابد أخناتون: “إن الرجل الأعمى نفسه لا يستطيع أن ينكر أن الشمس هي أعظم الأجرام السماوية منزلة وقدراً. الضياء الخالص جوهرها، ولا يضاهيها في الكبر نجم آخر. إنها وحدها التي تنفرد بكونها الخالقة، والحافظة، وناشرة الحرارة والدفء في كلّ مكان.

إنها منبع الضياء، ومعين الحرارة الضرورية لكل شيء. عظيمة الجمال، براقة، وبارزة للعيان، مصدر الرؤية، ومبدعة الألوان على الرغم من أنها غير ذات لون. ملكة السيارات حركة، وقلب العالم قوة، وعينه جمالاً.. وليس هناك جرم سماوي، أو نجم من النجوم غيرها، يستطيع أن يدّعي لنفسه كل هذا الشرف العظيم. وهكذا نعود إلى الشمس التي تستحق وحدها لجلالها، وعظمتها، وقوتها، أن تكون مقر الله نفسه، لا مبدأ الحركة فحسب”!! إن الأطفال والصبيان الذين تبهرهم الأشياء الوهاجة، يفقدون قدرتهم على تأملها والتمعّن فيها، ويصبحون على استعداد لأن يرموا بأنفسهم فيها حتى ولو انتهى الأمر إلى أن تحرقهم أو تسلبهم.. إن علماء عصر الوهج العلمي كانوا مستعدين أن يتحول كل واحد منهم إلى “كبلر” آخر يسجد للصنم الجديد، ويطوف حوله، ويتنازل عن حريته الكاملة عند قدميه. ولكن، وبمرور عقود قليلة من الزمن، تهاوت الاعتقادات القديمة، وتعّرت الصنميات الفانية، وتبيّن للخط الجديد من العلماء الكبار أن العلم ليس هو كل شيء، وأن مفتاح الكون كلّه ليس بيديه.. وأنه ليس بمقدور أكبر رياضيي العالم أن يقول لنا كيف يستطيع عقله أن يفاضل أو يكامل بين الأرقام ؟!

أ. د. عماد الدين خليل

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>