هـل عند الـمسلـم وقـت فـراغ؟


قيمة الوقت في الإسلام:
إن الزمن له قيمة كبرى في حياة المسلم بل هو حياة الإنسان، بحُسْنِ استغلاله وتنظيمه يسعد السعداء وتتحقق الحياة الهنيئة، وبسوء استغلاله يتعكر صفو العيش ويشقى المتخبطون المرتجلون، وقيل قديما: “الوقت من ذهب” والحقيقة أن الوقت أغلى من الذهب لأن الوقت هو الحياة والحياة لا تقدر بثمن، والذهب والمال إذا ضاع من الإنسان يمكن استرجاعهما إذا وُجد الوقت، أما الوقت إذا مضى وانقضى لا يمكن استرجاعه بالمال.

قال الوزير الصالح يحي بن هبيره:
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه
وأراه أسهل ما عليك يضيع
إن ديننا الحنيف بيَّن لنا أن المؤمن لا ينبغي له أن يجلس فارغا لا هو في شغل الدنيا ولا هو في شغل الآخرة ، لأنه لم يُخلق لذلك، وإنما خُلق للعمل والجِد والعطاء، قال الله عز وجل يؤكد ذلك: {لقد خلقنا الانسان في كبد}(البلد :4)، وقال:{يا أيها الانسان إنك كادح الى ربك كدحا فملاقيه}(الانشقاق : 6)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ((أشد الناس عذابا يوم القيامة المكفيُّ الفارغ))(1)، أي الفارغ من أي عمل، العالةُ على الناس، لأن الإنسان سيُطلَب منه يوم القيامة كشف الحساب، وإظهار نتائج الأعمال بمجرد الوقوف بين يدي الله تعالى، وسيُسأل عن عمره فيما قضاه، وسينبأ بعمله وسيحاسب عليه، قال الله عز وجل:{وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون، وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون}(التوبة : 106).
قال الإمام حسن البنا رحمه الله: “الواجبات أكثر من الأوقات، فعاون غيرك على الانتفاع بوقته”. وحُفظ منه أيضا: أن الوقت هو الحياة. كما حفظ من شيخه “الغزالي”: أن كل مفقود عسى أن تسترجعه إلا الوقت. وحُفِظَ من حِكَمِ السابقين أن الزمن لا يقف محايداً؛ فهو إما صديق ودود، أو عدو لدود.
وقد كان السلف رضي الله عنهم أحرص ما يكونون على أوقاتهم، لأنهم كانوا أعرف الناس بقيمتها ومن ذلك:
قال الحسن البصري: ((أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أشدَّ منكم حرصاً على دراهمكم ودنانيركم!)) ومن هنا كان حرصهم البالغ على عمارة أوقاتهم بالعمل الدائب والحذر أن يضيع شيء منه في غير جدوى.
وقال شعبة: “لا تجلسوا فارغين، فإن الموت يطلبكم(2).
إن الإسلام يَعتبِر الوقت أغلى وأنفس ما في الوجود، بحُسن استغلاله يسعد السعداء، وبسوء تدبيره يشقى الأشقياء، والأصل في حياة المسلم أنه لا يوجد فيها وقت فراغ وعطلة أبدا، ذلك أن الوقتَ والعمُرَ في حياة المسلم مِلْك لله سبحانه، والإسلام يجعل الوقت أمانة عند المسلم، يؤجر إن استغلَّه في فعل الخير، ويأثم إن فرَّط فيه، ولقد أعطى عليه الصلاة والسلام القدوةَ في القول والفعل في اغتنام الوقت، حيث تقول عنه أمنا عائشة رضي الله عنها: ((ولا رُئي قط فارغا في بيته))، كيف لا وهو الذي قال له ربه:{فإذا فرغت فانصب، وإلى ربك فارغب}(الشرح)، وهو خطاب لكل مسلم من بعده كي لا يبقى فارغا أبدا، فإذا فرغ من أعمال الدنيا، انتصب للعبادة ورَغِبَ فيما عند ربه من العطاء الذي لا ينفد، وإذا فرغ من واجباته الدينية فلينشغل بعمل دنياه، وإذا انتهى من حاجة بدنه، فليأخذ غِذاء لقلبه ومتعة لروحه، وإذا أتمَّ شأن نفسه، فليُقْبِل على شأن أسرته ثم على أمر مجتمعه وأمته، وهكذا يدرك المسلم أنه لا فراغ في حياته أبدا، وبالتالي تصبح كل لحظة من لحظاته عبادة وقربة إلى الله، حتى الترويحُ عن النفس والاستمتاع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول ربكم عز وجل: يا ابن آدم تفرغْ لعبادتي أملأْْ قلبك غنى، وأملأْ يدك رزقا، يا بن آدم لا تباعد مني أملأ قلبك فقرا وأملأ يدك شغلا))(3).
إن أهل القرون الأولى من هذه الأمة لم يعرفوا انقطاعا عن العمل ولا عُطلا، بل كانت حياتهم جِدّا وجهادا وعلما وحركة ودعوة، وكان ترويحهم ترويضا للنفس حتى تتهيأ للجد، وتكسب نشاطا أقوى وهمة أعلى وعزيمة أرقى، ولم يكن الترويح عندهم عبثا ولا مجونا ولا انحرافا، بل كان منضبطا بضوابط الشرع ومتقيدا بحدوده، يقول ابن مسعود رضي الله عنه : ((إني لأبغِض الرجل أن أراه فارغا ليس في شيء من عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة)).
المسلم الرسالي واهتمامه بالوقت
إن الله عز وجل يسوق الأوقات فرصا للبشر لاغتنامها وهي أسواق تعقد ثم تُفَضُّ، يربح منها من يربح ويخسر فيها من يخسر، والمسلم سبّاق للخير، لا يدع لحظة من لحظات حياته تمر دون فائدة، لأنه يعلم أن الأصل في الوقت أن لا يمر فارغا، فهو إما أن يملأ بما هو نافع، أو يملأ بما هو ضار.
“إنَّ المسلمَ الحق يحرصُ على استثمار كلِّ فرصة زمنية من وقته، ويُوَظِّفُ كل نفَس منْ أنفاسه في طاعة ربه عز وجل، ولا يَتْرُك فرصةً سانحةً أمامه لتحصيل مثوبة من الله تعالى إلا واغتنمها، ولا يدَعُ بابًا منَ الأبواب الموصلة إلى نعيم الآخرة إلا ويَدخُل من خلاله، وإنَّ مِنْ آكد ما يُحْيي في النفوس همةَ استثمار الزمان، ويبعثُها على عمارة الفراغ بما يقرِّب إلى الله تعالى، إدراكُ أنَّ الليلَ والنهارَ مراحلُ ومنازلُ يَنِزلُها الناس في سيرهم وسفرهم إلى الله تعالى(4).
قال العلامة الشيخ القرضاوي: “وأول واجب على الإنسان المسلم نحو وقته أن يحافظ عليه كما يحافظ على ماله بل أكثر منه، وأن يحرص على الاستفادة من وقته كله، فيما ينفعه في دينه ودنياه، وما يعود على أمته بالخير والسعادة والنماء الروحي والمادي(“(5).
وأُورِدُ هنا قصة رائعة تبين علو همة عالم فذ، جاء في ذيل طبقات الحنابلة للحافظ ابن رجب في ترجمة الإمام أبي الوفاء علي ابن عقيل الحنبلي البغدادي المقرئ الفقيه الأصولي الواعظ المتكلم ذي العلوم والفنون أحد الأئمة الأعلام في الإسلام ومن أفاضل العالم وأحد أذكياء بني أدم (431/513) رحمه الله: “أنه كان يقول: إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي، وأنا منطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عمر الثمانين أشد مما كنت أجده وأنا ابن العشرين سنة.
وأنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي، حتى أختار سف الكعك وتحسِّيه بالماء على الخبز، لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ، توفرا على مطالعة أو تسطير فائدة لم أدركها فيه”(6).
لقد بلغ هذا العالم في محافظته على الزمن مبلغاً أثمر أكبر وأضخم كتاب عرفه العالم، وهو كتاب (الفنون) الذي وصل إلى 800 مجلد تكلمتْ عن مختلف الفنون والعلوم(7).
هذا نموذج فريد من العلماء الذين كانوا يقدرون قيمة الوقت ويغتنمونه فيما ينفع، ومن أراد التوسع في معرفة كيفية اغتنام الوقت عند العلماء فليرجع إلى الكتاب المذكور.
الوقت وعاء للأعمال فانظر بم تملأه!
وإذا كنا نعيش في وقت غير وقت النبوة وكان لا بد فيه من العُطَل، وإذا كان المؤمن مسؤولا عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وكان هدفُ المؤمنِ من الحياة هو السعادة الدنيوية والربح الأخروي، فيتحتم عليه أن يُشغِل نفسه بكل عمل صالح مشروع يعود عليه بالنفع والبركة في الدنيا، ويجد ثوابه يوم الاحتياج إلى الزاد، قال الله عز و جل:{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد، واتقوا الله، إن الله خبير بما تعملون}(الحشر :18)، وعليه أن يجعل من مواسم العطلة والفراغ من العمل مواسم بناء لا مواسم هدم، وأوقات طاعة لا أوقات معصية، وأزمان جمع لا أزمان تشتيت وتبديد.
فعطلة الصيف لها إيجابيات كثيرة يحْسُن بالعاقل أن يستفيد منها ويحوزها، وفيها سلبيات يجدر بالعاقل أن يتجنبها ويتوقاها، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “السنة شجرة والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمارها، فمن كانت أنفاسه في طاعة الله فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت أنفاسه في معصية فثمرته حنظل، وإنما يكون القطف يوم الحصاد، فعند ذلك يظهر حلو الثمار من مرها”.
إن الزمان يدور بسرعة عجيبة لا يُحِسّ بقيمته إلاّ المؤمن الكَيِّس الذي يقدر للأيام قدرها، ولا يضيع فرصتها، ويعلم أن ما ضاع له من وقته لن يعود له أبدا إلى يوم القيامة، فيعتبر حياته فرصة سانحة ينتهزها ويغتنمها، ولا يلتفت إلى الماضي لأنه فات، ولا يتلهف على المستقبل لأنه لا محالة آت، فيغتنم أوقاته التي يحياها، ويملأها بالطاعة وسائر أنواع القربات التي تدوّن عليه في سجل أعماله، لينتفع بثوابها يوم يكون المضيعون لأوقاتهم في أشد الحاجة إلى الزاد، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((اغتنم خمسا قبل خمس : حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، و فراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك))(8)، فهذا الحديث العظيم يمثل أيام الإنسان بأنها حبل ممدود، لا يدري متى ينقطع، فلربما ضاعت الفرصة، وانقلبت البسمة غصة، ومن ثَمَّ كان ينبغي للمؤمن أن لا يضيع أوقات عمره التي هي شذرات غالية نفيسة بين يديه، يندم إذا لم يضعها في موضعها، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أوصانا باغتنام هذه الخمس قبل حلول أضدادها، ففي الشباب قوة وعزيمة، فإذا هرِم الإنسان وتقدم سنُّه ضعُفت قوته وفترت همته، وفي الصحة نشاط وتوق للعمل، فإذا مرض الإنسان ضَعُفت قواه، وعجز عن العطاء والإنتاج، وفي الغنى سعة وقدرة وجِدَة تمكِّنه من الإنفاق والتصدق وفعل الصالحات بماله، فإذا افتقر الإنسان انشغل بطلب الرزق لنفسه ولأهله، وفي الحياة ميدان فسيح لصالح الأعمال، فإذا مات الإنسان انقطع عمله، فإذا حلَّت هذه الموانع – الموت والسقم والشغل والهرم والفقر – بالإنسان منعته من فعل الصالحات والتزود من أعمال البر، وحالت بينه وبين ما يشتهي، ودهته وهلكته هلكا، قال الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ((بادروا بالأعمال سبعا، هل تنتظرون إلا غنى مُطغيا، أو فقرا مُنسيا، أو مرضا مفسدا، أو هرما مُفْنِدا(9)، أو موتا مُجهِزا، أو الدجال، فشرُ غائب يُنتظَر، أو الساعة، والساعة أدهى وأمَرُّ))(10). ففي هذا التوجيه النبوي الرشيد دعوة لجعل الفراغ موسما للاستثمار والمبادرة إلى الأعمال الصالحة، إنه توجيه لمَلْء ساعات الفراغ قبل أن تمضي بلا رَجْعَة.
فلا ينبغي للمسلم أن يتخلى عن أي عمل يحقق نفعا للأمة أو للإنسانية، فليس في حياة المسلم عطلة وإنما سعي دائم أو ترويح هادف يريح النفس ويعيد لها النشاط والقوة .. ثم عودة بعد ذلك للجد والعمل والإنتاج.
خــاتـمـة
وأمام الفراغِ الذي يعيشُه كثيرٌ مِنَ الناس في أيام الصيفِ الطويلة، يجْدُرُ بالمؤمنِ الحريصِ على وقتِه والذي يتيقَّنُ أنهُ سيحاسَبُ عليه أنْ يغتنِمَهُ بفِعْلِ كثيرٍ مِنَ الأعمالِ وإنجاز الأشغال التي لا يتأتَّى لهُ فِعلُها في أوقات العمل، وأنْ يضَعَ برنامجا عمليا لاستثمارِ أوقات عطله وفراغه.
———- 1- انظر الخطب المنبرية لعبد الرحمان الكمالي ص 153.
2- انظر كتاب قيمة الزمن عند العلماء للشيخ عبد الفتاح أبو غدة.
3- رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد عن معقل بن يسار، المنتقى من الترغيب والترهيب حديث رقم:1945.
4- رفع الهمم وتنوير الأفهام بأحاديث خير الأنام عليه الصلاة والسلام للكاتب (1. 76).
5- يوسف القرضاوي الوقت في حياة المسلم ص 14.
6- قيمة الزمن عند العلماء للشيخ عبد الفتاح أبو غدة ص 96.
7- نفس المصدر ص 97.
8- رواه الحاكم والبيهقي عن ابن عباس.
9- موقعا في الفند، والفند كلام المخرف.
10- رواه الترمذي عن أنس وقال حديث حسن.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>