نظرات في مثال “الزبد” ودلالته في سنة التدافع بين الحق والباطل


يقول تعالى فى سورة الرعد: {قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ  أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ}(الرعد : 16-17).

الأمثال لها وقع خاص فى النفوس، لأنها ترسم صورة موازية للمعنى المقصود تحوى غالباً أموراً من مألوفات الحياة، يستطيع الناس بسهولة أن يتعرفوا عليها ويتمثلوها في أذهانهم

ثم يقطع الخيال رحلة ممتعة ينتقل فيها من هذه الأمور المألوفة إلى المعنى ((الموازى))، فيتجسم المعنى وينبض بالحيوية حين يدرك الإنسان وجه الشبه بينه وبين الصورة الواردة في المثل، ويتضاعف حجمه في الحس لأن الإنسان يراه مرتين: مرة في الصورة المجردة، ومرة في المثل المضروب

وفى القرآن ترد أمثال كثيرة، تجسم المعاني التي يراد تجسيمها، وتضاعف وقعها في النفوس وتجيء الإشارة إلى ذكر الأمثال في القرآن في مثل قوله تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ …}(الروم : 58).

ولكن هذا المثل المضروب في سورة الرعد له خصوصية حتى بين الأمثال:

إنه يبدأ بكلام لا تحسبه في بادئ الأمر مثلا يضرب، لأنه حقيقة واقعة من حقائق ((الطبيعة)) التي خلقها الله، تجيء في معرض ذكر القدرة الإلهية { الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار أنزل من السماء ماء}.

ولكن هذه الحقيقة مرتبطة بالمثل فهي حقيقة وهى مثل يضرب ذات الوقت

هذا الماء الذي نزل بقدرة الله سالت منه أودية، كل واد بحسب سعته، وجرى الماء فى الوديان فاحتمل السيل زبدا رابيا إلى هنا يتم تقرير هذه الحقيقة الواقعة التي تقع فى الطبيعة، ويسجل السياق وجود الزبد مع اندفاع الماء، وهذه أيضاً حقيقة تقع في الطبيعة

ولكن يأخذ المثل فى التشكل عند هذه النقطة، ثم يمضى شوطا آخر {ومما يوقدون عليه فى النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله}، فالزبد ليس حادثا فى ((الطبيعة)) فقط، بل فيما يصنع الإنسان كذلك فالناس يوقدون على الذهب والفضة، ليصهروهما، ثم يشكلون من المادة المنصهرة حلياً ومتاعا متعدد الأشكال، ولكن ظاهرة الزبد تلاحقهم أيضا فيما يصنعون وإلى هنا تقرر حقيقة جديدة: أن الزبد ظاهرة ملازمة سواء فى الطبيعة التى خلقها الله، أو فيما يصنع الإنسان بيده.

ويبدأ المثل يتشكل بصورة أوضح، وذلك حين يقول الله سبحانه وتعالى: {كذلك يضرب الله الحق والباطل} فالحق والباطل موجودان متجاورين متلازمين فى حياة الناس، بقدر من الله، ولكن لفترة من الوقت، ولمرحلة من المراحل ثم يأتى ما قدره الله وما قرره منذ الأزل {فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض} وتلك هى النهاية التى تستقر فيها الأمور فى وضعها الأخير

ولكى ندرك مرمى المثل لابد أن نشير إلى واقع الدعوة فى الفترة المكية، وإلى حال المؤمنين يومئذ(1).

كان الباطل منتفشا فى مكة، والمشركون ظاهرين، يجولون ويصولون، مزهوين بكثرتهم وقوتهم وغلبتهم على المؤمنين وقهرهم لهم والمؤمنون فى ضعفهم وذلهم وهوانهم على الناس كما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم

حاله وهو يشكو حاله إلى الله: ((إليك أشكو ضعفى وذلتى وهوانى على الناس))، والعذاب يصب عليهم صبا من جانب المشركين.

هنا مضرب المثل فى صورتين: صورة الرابى فوق الماء، والزبد المغشى للذهب والفضة المصهورتين.

ويريدالله سبحانه وتعالى أن يسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

وعن المؤمنين الغارقين فى العذاب أن ما هم فيه ليس هو نهاية المطاف! إنها  مرحلة موقوتة ثم يتبدل الحال!

فأما السيل فبعد فترة يصفو، وينفثئ الزبد الذى يعلوه، ويذهب جفاء يذهب بددا ويبقى الماء يسقى الحرث والنسل، وينبت الزرع، وينتفع الناس به، ويفرحون بالخير الذى جاء معه.

وأما الزبد الذى يعلو الذهب والفضة فى عملية الصهر فيلقى جانبا، ويذهب بددا، وأما المعدن الصافي فيبقى نقيا خالصا ينتفع به الناس ذلك هو المثل. أما الصورة ((الموازية)) المطلوب إبرازها فهى أن انتفاش الباطل وهيمنة الكفار فى مكة زائلان بحول الله وقوته. ويبقى الحق، ويعلو، وينتصر، ويخلص له الجو، ويصبح هو القوة الممكنة فى الأرض، ويدخل الناس فى دين الله أفواجا، بعد فترة الصراع التى يخوضها الحق مع الباطل:  {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين}(البقرة : 251).

إنه مثل رائع، يجسد علو الباطل فترة من الوقت، ثم تبدده فى النهاية وانتصار الحق..

ولكن روعته تزداد فى الحس حين ينعم الإنسان النظر فى تفصيلاته..

من سنن الله أن يسبق انتصار الحق وتمكنه فى الأرض فترة يعلو فيها الباطل ويتنفش. ومن سنة الله فى الوقت ذاته أن يبتلى المؤمنون على يد الكفار :

{أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين}(العنكبوت : 2- 3).

ويبين الله حكمة الابتلاء فى قوله تعالى: {وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين}(آل عمران : 141) فمحق الكافرين يأتى بعد تمحيص المؤمنين وتمحيص المؤمنين يأتى من خلال الابتلاء

وتبلغ الروعة فى المثل قمتها فى تصوير حالة الابتلاء.. إنها ((فتنة)) ينصهر فيها المؤمنون كما يفتن الذهب والفضة على الناس(2)، كما ورد فى سورة العنكبوت: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} (العنكبوت : 2- 3).

وفى عملية الانصهار التى تتم فى الابتلاء تذهب أدران النفوس، وتصفو، وتخلص لله، كما يذهب ما يعلق بالذهب والفضة من أوشاب، لا تزول إلا ((بالفتنة)) على النار، ثم يبقى الجوهر الصافى الذى يستمتع به الناس ألا إنه إعجاز.

ذ. محمد قطب

———-

1- سورة الرعد مختلف فى كونها مدنية أم مكية، ويغلب على ظنى، كما بينت فى كتاب “دراسات قرآنية” أنها مكية تحوى آيات مدنية. والله أعلم .

2- يقال فى اللغة : فتن الذهب والفضة أى صهرهما على النار لينفى منهما الخبث:

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>