مقترحات عملية لتحصين الأسرة المسلمة وصيانتها


مــدخــل :

الأسرة هي الخلية الرئيسية للمجتمع وأصغرها حيث لا توجد خلية أصغر منها يمكن اعتبارها من مكونات المجتمع، فهي جوهر المناعة فيه.. والهجمات التي وُجهت للأمة الإسلامية كانت تستهدف هذا الحصن الحصين والركن الركين، والذي تعتبر فيه الأم حجر الأساس..

فما المقصود بتحصين الأسرة؟

التحصين هو من الحصانة أي الحماية والوقاية.. نقول: حصَّن المكانَ إذا أحصَنه، منعه وصانه، أو بنى حوله حِصْنًا، كما في قوله تعالى:{لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إلاَّ فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ}(الحشر:14)، أي قرى منيعة محميّة، وكلنا نعلم أن الحصن فيه من الأمن والأمان والسلامة والسعادة والهدوء والاستقرار الشيء الكثير.. والتحصين يحمل معنى البُعد عن الشرور والآثام والسلامة من الحيرة والاضطراب والأمن من العدوان والاجتراء على الحرمات.. و”حصَّن فلانًا”: اتّخذ الحيطة لوقايته من المرض ونحوه، صانه وحفظه كما في قوله تعالى:{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِيُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ}(الأنبياء:79)، ومنه “حصَّنَ زوجتَه” أي أحصنها، أعفَّها..

ولكن تحقيق التحصين المطلوب لم يعد مجديا من منطلق الدراسات والأبحاث الموجودة اليوم والتي لا تعدو أن تكون خلاصات من الفقه الإسلامي الخاص بـ”الأحوال الشخصية” أو مواعظ  وإرشادات لما يجب أن تكون عليه الأسرة في الإسلام.. أو أن يكون في صورة اقتباس واحتكاك لفكر غريب ودخيل عن مجتمعاتنا وعن أصولها الحضارية والتي لا تسبب إلا في مزيد من ترسخ الاختراق التربوي والثقافي والاجتماعي للأمة الإسلامية..

ولا أدعي أنني من خلال هذه الورقة سأستطيع تجلية وبيان أوجه التحصين والحماية والوقاية والسلامة للأسرة المسلمة، لكثرة جوانبها وتنوع مسالكها من جهة، ولضرورة فتح مجموعة من النوافذ على الواقع لاستيضاح الجوانب التي تسرب إليها الخلل وجاس الأعداء خلال الحصون من جهة أخرى..

ومن ثم فإنني سأُجَلي مجموعة من النقط هي عبارة عن مقترحات عملية، أحسبها بابا من أبواب الولوج إلى تحقيق التحصين المنشود للأسرة المسلمة وصيانتها، ومنطلقا لفتح نقاش تربوي رصين حول هذا موضوع..

أ- تحصين الأسرة بفقه الدين وحكمة التنزيل :

والحديث هنا عن التشريع الرباني الذي خص هذه الخلية بمزيد من العناية والرعاية والتحصين.. حيث نتبين من كتاب ربنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تلك الحكمة البالغة العظيمة، حين نجد أن كل ما يتعلق بالأسرة وبنائها وضمان عقيدتها وسلامة فضيلتها، قد فصله الله سبحانه وتعالى تفصيلاً في الكتاب، كما في السنة، ولم يدع مجالاً ولا ناحية من نواحي تنظيم الأسرة، إلا وجعل الأحكام فيها مفصلة، ابتداءً من الخِطبة، حين يريد الإنسان أن يخطب: ماذا يفعل؟ بأي أمرٍ يبدأ؟ ومن يخطب؟ ومن يتزوج؟ ثم إذا تزوج: كيف يعاشر تلك الزوجة؟  وفي أخص دقائق هذه الأمور جاء أيضاً البيان من الكتاب والسنة.. ثم منذ لحظة الولادة: كيف نربي أبناءنا؟ وكيف تنشأ الأسرة؟ وكيف تستمر؟ ما هي الحقوق والواجبات؟.. إلى أن يموت الأب، ويأتي الجيل الذي بعده، ماذا يفعل بأبيه؟ وماذا عليه بعد موته؟…

أحكام لا يتسع المقام لشرحها وإيضاحها، كأحكام العشرة بين الزوجين، وآداب الأسرة، وحق الزوجين، وتربية الأبناء، وكل ما من شأنه أن تكون الأٍسرة به متماسكة، قوية محصنة في إيمانها، وأخلاقها، وفضيلتها، وفي ترابطها الدنيوي.. فقد أوضح الله تعالى الأحكام المالية التي تتعلق فيما بين الزوجين، وما بين الأبناء والآباء، كل ذلك فصله الله تبارك وتعالى، لكيلا يحوجنا إلى التسول على موائد الشرق أو الغرب، فلا نريد أن نأخذ منهم المناهج الهدامة، والأنظمة المدمرة..

فهذهالأسرة التي اهتم بها ديننا، والتي يحرص علماؤنا ومفكرونا وكتابنا دائماً على أن يحدثونا عنها، لابد أن نعي دورها، وأن نعي قيمتها، وأن نعي أهميتها.. وأعظم ثروة أن هذه الأسرة تجعل بهذا الدين نفوساً سوية، وفِطراً سليمة، وسلوكيات مستقيمة، وأذواقا رفيعة، وآدابا سامية وراقية.. كل هذا مع نشأة عاطفية فيها حنان الأمومة، وفيها رعاية الأبوة للأبناء.. يتحقق كل هذا كله بإذن الله تعالى إذا كان هذا الحصن قائماً على تلك الأسس والقيم التي ذكرناها بإيجاز شديد..حيث يعتبر الأبوان المسؤولان الأساسيان في الانطلاق نحو هذا الهدف، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

قال: ((كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ..))(مسلم).. فلا يمكن للأسرة أن تسلم من الآفات وتنجو من التخريب دون سلامة رُبانها من الضياع، ولا ضياع أكثر من الابتعاد والجهل بتعاليم هدي الشريعة في صيانة الأسرة تحققا وتخلقا..

ولهذا نقرر ابتداء -كنقطة عملية رئيسة- أن تربية الآباء والأمهات ضرورة لنجاح تربية الأبناء..

والمقصود بتربية الأمهات والآباء هو توجيه برامج منظمة عن طريق مؤسسات تربوية وثقافية وفكرية متخصصة تتبع أساليب التربية المستمرة بحيث يتم من خلالها تعريفهم بالمعلوم من الدين بالضرورة فيما يخص الأسرة، وإكسابهم معلومات واتجاهات عن أفضل أساليب التعامل فيما بينهم، وتدريبهم على أحسن المهارات في تربية أبنائهم، وأفضل الأساليب لمساعدتهم على التخلق بالقيم الأخلاقية والحضارية..

وقد يستكثر مجموعة من الآباء والأمهات هذا الأمر في غمرة الانشغال بكسب لقمة العيش، وطرح أولوية توفير الراحة المادية لأفراد الأسرة.. ولكن نبادر ونقول إن هناك مبررات واقعية قوية تعدّ من المطالب الشرعية للأبوين، تجعلنا نغير نظرتنا لهذه الزاوية المنسية من ديننا..

ب- مبررات تربية الآباء والأمهات :

> إن كثيرا من الأمهات والآباء تربوا وسط ظروف قوِي فيها المرغوب الذي يجب استمراره، والمندوب الذي يحسن استمراره، والمكروه الذي ينبغي التخلص منه..

> إن التغييرات الكاسحة التي تحيط بنا وتزحف من تحتنا تحتاج إلى بصر وبصيرة، ذكاء وحرص.. لا بد فيها أولا من جهد الأسرة وعطاء المنزل..

> ومنها أن ضغوط الحياة الراهنة، وإيقاعها السريع المتقلب، وتحدياتها القاسية الحادة قطعت كثيرا من الروابط الاجتماعية ومزقت بعض مظاهر الحب والحنان التي كان يحظى بها الطفل الصغير من الأسرة الممتدة والأسرة الصغيرة، فمع الضغوط والتحديات صار بعض الأمهات والآباء أميل إلى الفردية والأنانية منهم للجماعة والإيثار.. مما يجعل الأبناء خاضعين لـ”تربية الصمت” التي ستُخرِّج “جيلا صامتا” في المجتمع..

> ومنها كذلك أن تجديدات المنهج وطرائق التدريس داخل المدرسة يلزمها فهما ودعما، تعاونا ومساعدة من الأسرة.. وبعض هذه التجديدات لن يتم إذا استمرت الأسرة بذات وسائلها ونفس طرائقها..

> ومنها أيضا، أن بعض الأمهات والآباء لهم نوعية خاصة من الأبناء بعضهم معاقة بدرجة من الدرجات في حاسة أو حواس، أو قدرة من القدرات، وبعضهم في طريق إعاقة أو مزيد من الإعاقات.. وفي داخل نفس الأسرة ربما نجد طفلا آخر لديه سمة أو سمات الابتكار والإبداع في فن من الفنون أو علم من العلوم…

ج- وسائل تربية الآباء والأمهات:

انطلاقا من هذه المبررات، يتبين أن تحصين الأسرة داخليا يتطلب مجهودا ومجاهدة في إتباع وسائل معينة من لدن أفراد الأسرة أنفسهم وفي مقدمتهم الآباء والأمهات، ومن ذلك ما يلي:

1- تنظيم دراسات حرة مفتوحة لكل من يرغب من الأمهات والآباء بدون شرط أو قيود معينة، ويمكن لكليات وأقسام متخصصة متنوعة الاشتراكفي تقديم هذه الدراسات..

2- تنظيم دورات تنشيطية تكوينية مكثفة وعادية مستمرة عن طريق مراكز خدمة المجتمع المتخصصة لتوعية وتدريب الآباء والأمهات على رفع مستوى كفاءاتهم التربوية من المنظور الإسلامي، لتأهيل أبنائهم لتحمل المسؤولية في المستقبل في جميع مناحي الحياة..

3- استثمار دور العبادة من خلال خطبة الجمعة، ودروس الوعظ والإرشاد، وتفعيل المؤسسات الإعلامية الرسمية وغير الرسمية في اتجاه تقديم برامج تفاعلية موجهة للأسرة، وكذا النوادي والجمعيات وغيرها من وسائل التربية داخل المجتمع المدني لحفز الاهتمام بهذا الموضوع، وإثارة الدوافع بالنسبة له، وكذا تقديم الخدمات الإرشادية اللازمة لكل أفراد الأسرة..

4- تدريب المعلمين والمدرسين والمربين أنفسهم على أفضل أساليب التعاون مع الأسرة وتبادل الاتصال والتنسيق بين المدرسة والأسرة، بل بين المؤسسات التربوية الأخرى والمنزل وذلك عن طريق السجلات، والاتصال الهاتفي، واللقاءات الدورية.. بهدف الرقي بمستوى الأسرة إلى أعلى مستويات النضج والقوة والحصانة..

5- تنظيم لقاءات وندوات للآباء والأمهات عن طريق الأخصائيين المتمرسين في هذا الميدان بحيث لا تكرر الأسرة دور المدرسة، وفي نفس الوقت لا تتعارض معها أو تناقضها..

وصفوة القول في هذه النقط هو أن تسعى الأسرة بمؤهلاتها الذاتية إلى الاستزادة من العلم النافع والتكوين المستمر الذي يحقق لدى الآباء والأمهات تحصيلا واعيا، واستيعابا كاملا للمعلوم من الدين بالضرورة في ميدان التربية والتكوين والتأطير من منظور التشريع الإسلامي..

فالأسرة هي القلعة الأخيرة، والحصن الحصين، إذا ضاعت، ضاعت الأمة وضاعت الهوية وضاعت المبادئ وضاعت القيم، وإذا بقيت صامدة شامخة عصية منيعة، فكل شيء باق وكل شيء متدارك بإذن الله تعالى، فما دام مصنع الرساليين باق يُنتج، وما دامت مدرسة القيم والمبادئ باقية تُخرِّج، وما دامت الأسرة الطيبة كالشجرة الطيبة أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا،  فما علينا إلا أن نشمر على سواعد الجد والاجتهاد، والمجاهدة لكي نتصف بصفات عباد الرحمان ونقتدي بهم في دعاءهم {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (الفرقان:74).

د- من أجل أسرة منيعة معطاءة :

إن التحدي الحقيقي لا يقتصر فقط على العمل على حماية هذه الأسرة ورعايتها وتحصينها، لما في حمايتها من حماية للمجتمع، ولما في استمرارها من استمرارية للأمة، ولما في نجاحها من نجاح للأمة، ولما في تماسكها من تماسك الأمة بأكملها، بل إنه يتعدى ذلك إلى العمل الدءوب على إحيائها وإحياء دورها وتفعيل وظيفتها، ورسالتها، المتمثلة في تربية وتكوين وتخريج الإنسان الصالح المصلح، وفي جعلها أسرة رسالية، حاملة للرسالة، متمثلة لها، مبشرة بها، مدافعة عليها، متعاونة على تنزيلها، متكاملة في أدوارها، مقدمة القدوة، ممثلة النموذج، معطية المثال، منارة بين الأسر، رائدة في الإصلاح، مبادرة لأداء الواجب، اقتداء بأسرة أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام في قول الله تعالى:{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}(البقرة:132)، وقوله سبحانه:{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي؟ قَالُواْ: نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(لبقرة:133).

إن الأسرة الرسالية هي الأسرة المستمدة من الوعي القرآني، الحاضرة في التدافع الحضاري والمجتمعي، والفاعلة فيه والمواكبة لأطواره، والصامدة أمامه والمدافعة والمكافحة والمنافحة عن رسالتها، ومستقبلها، ومستقبل أبنائها، ومستقبل أمتها..إنها الأسرة المنيعة المعطاءة..

       ذ محمد بوهو

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>