أصول الأخلاق ومكارمها في الزواج والطلاق


ثنائية الزواج والطلاق  هي أقدم ثنائية عرفتها البشرية. والأصل الثابت في هذه الثنائية هو الزواج الذي بدأ مع أول زوجين في التاريخ البشري آدم وحواء عليهما السلام. والطلاق إنما هو طارىء على هذه الثنائية، ولا يعتبر أصلا ثابتا  كالزواج، بل هو استثناء  تفرضه حالة  تعذر استمرار الزواج.

العلاقة الزوجية في الإسلام :

شروط ومقومات

1- الزواج أصل فطري، والطلاق عارض :

يقول الله عز وجل : {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة}، فسياق النص القرآني الكريم يحيل على فطرة فطر الله عز وجل الناس عليها، وهي فطرة الزواج.

2- تعريف الزواج والحكمة منه :

الزواج لغة : هو القِرَان بين شيئين من جنس واحد. والعرب تقول : زوج الشيء بالشيء، وإليه، إذا قرنه به. وتقول زاوَج الشخص غيره إذا قارنه، وخالطه. فالزواج هو جمع بين ذكر وأنثى لأنهما من جنس واحد، أو من نفس واحدة  حسب التعبير القرآني. والسر في  الزواج حسب القرآن  الكريم هو تلك المودة والرحمة التي أودعها الله عز وجل في الزوجين  معا، والتي تجعلهما ينجذبان إلى بعضهما ويقبلان الاقتران ببعضهما. ولولا المودة والرحمة اللتان أودعهما الله تعالى في الرجال والنساء على حد سواء لما كان بينهما قِرَان أبدا.

والحكمة من  وراء ذلك بطبيعة الحال المحافظة  على النوع البشري من أجل أن يؤدي وظيفة العبادة، وهي طاعة الخالق، والانضباط لما سنه من نواميس وقوانين، ليحيى حياة طيبة في الدارين العاجلة والآجلة. والطارىء على علاقة الزواج هو انفصامها، وهو ما يعني فتور المودة والرحمة بين الأزواج لأسباب قد تكون إيمانة أو نفسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية أو حتى مرضية.

3- تعريف الطلاق :

الطلاق لغة : هو الترك، والفراق، وهو نقيض الزواج. ويترتب عن الطلاق فتور المودة والرحمة بين الزوجين، كما يترتب عن الزواج ما يلزمه من مودة ورحمة. والعرب تقول: طلقت المرأة من زوجها إذا بانت أي بعدت عنه، وتركته، وتقول أيضا : طلق الرجل زوجته إذا خلاها عن قيد الزواج. والمفهوم من قولهم هذا أن الزواج قيد معنوي يربط بين الزوجين، وهو بالتعبير القرآني الميثاق الغليظ، وغلظته متأتية من وجود الخالق سبحانه طرفا شاهدا فيه على الزوجين. وكلمة قيد تحيل على الربط من خلال واجبات وحقوق. فعندما ينعقد الزواج تلزم مع انعقاده الواجبات والحقوق المتبادلة بين الزوجين. وعندما يحصل الطلاق، وهو انكسار قيد الزواج  يترتب عن ذلك  خلو ذمة الزوجين من  الواجبات والحقوق المتبادلة. وحرصا من الخالق سبحانه وتعالى على علاقة الزواج التي هي الأصل  جعل الطلاق مرتين في قوله تعالى : {الطلاق مرتان}، وهو ما يعني إعطاء فرصتين اثنتين لعلاقة الزواج، أو بتعبير آخر لإنقاذ المودة والرحمة بين الزوجين من الضياع. وحرصا على علاقة الزواج  جعل الله تعالى الطلاق أبغض ما أحل  حتى لا يقبل عليه الناس بكثرة. ولو حرمه الله عز وجل لوقع في هذه المعصية خلق كثير.

4- مقتضيات الزواج والطلاق :

يعرف الناس ما تقتضيه علاقة الزواج من مودة ورحمة، ويعترفون بذلك، إلا أنهم في الغالب يجهلون أو يتجاهلون  ما يقتضيه الطلاق من عدل وإنصاف.

أ- التزام الاحسان والمعروف في الزواج والطلاق، وتجنب الإساءة والكراهية :

القرآن الكريم  يلح على أن  يكون الطلاق مصحوبا بالإحسان المقابل للمعروف في حالة الزواج لقوله تعالى : {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} فالإمساك  كناية عن الزواج، والتسريح كناية عن الطلاق، وفي التسريح ما يحيل على الفكاك من قيد الزواج ومسؤولية تتعلق بحقوق وواجبات. فإذا كان الزواج يقتضي بموجب المودة والرحمة المعروف، وهو الخير الذي يسمى كذلك لأن الناس يعرفونه، فإن الطلاق  يقتضي الإحسان، وهو نقيض الإساءة.

وما ذكر الله عز وجل الإحسان في هذا الموضع وهذا السياق إلا لأن الطلاق، وهو انفصام عروة الزواج.

يعني فتور علاقة المودة والرحمة، وحلول الكراهية محل المودة، والقسوة محل الرحمة، حيث يقسو الزوجان المطلقان على بعضهما. ولهذا السبب شدد الله عز وجل على التزام العدل خلال الطلاق وبعده. ولقد سوى الله تعالى  بين حالتي الزواج والطلاق في  المعروف حيث قال سبحانه : {فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} فالإمساك كناية عن الزواج، والفراق كناية عن الطلاق، وهما معا يستوجبان المعروف أي الخير. ولا يكون الخير إلا حيث توجد المودة والرحمة، الشيء الذي يعني أن الله عز وجل منع الكراهية بين  الطلق -بضم الطاء وتضعيف اللام- أو الطوالق  ذكورا وإناثا. وقد ورد ذكر الكراهية في العلاقة الزوجية سواء كانت زواجا أم طلاقا في قوله تعالى : {وعاشروهن بالمعروف، فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا} فالمعاشرة  كناية عن الزواج، والأصل فيها المودة والرحمة، ولا مبرر فيها للكراهية. وانفصام ميثاق الزواج  لا يعني حلول الكراهية محل المودة والرحمة، وهو ما أشار إليه الله عز وجل بقوله : {فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا}، ومن هذا الخير المعروف والإحسان بعد الطلاق، ولا يجتمعان مع كراهية. وحتى لا تنشأ الكراهية بين الأزواج المنفصلين عن بعضهم، وعدهم الله عز وجل  الغنى من سعته في قوله تعالى : { وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته}، ومع هذا الغنى الواسع لا مبرر للكراهية بين المتفرقين من الأزواج.

ب- التزام العدل والإنصاف وتجنب الظلم في حالتي الزواج والطلاق :

إن ما يحصل في الغالب للمنفصلين من الأزواج  سببه الانسياق وراء الأهواء، وهو انسياق  يبدل العدل بينهم ظلما. ومعلومأن الظلم هو وضع الأمور في غير ما وضعت له أصلا. لهذا حذر الله تعالى من الوقوع في الظلم  بسبب الانسياق وراء الأهواء، فقال جل وعلا : {فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا}. ولقد جعل الله تعالى العدل مؤشرا على التقوى فقال سبحانه : {اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله}. والعدل في هذه الآية لا يقتصر على عدل بعينه بل هو مطلق، العدل الواجب في كل المعاملات البشرية بما فيها الطلاق. والعدل يشمل الفعل والقول لقوله تعالى : {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى}. والحكم بين الناس يكون بالعدل سواء تعلق الأمر بعدل الفعل أم بعدل القول لقوله تعالى : {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}. والله تعالى لا يأمر فقط بالعدل، وهو حصول كل ذي حق على حقه كاملا غير منقوص، بل يقرنه بالإحسان، وهو ما يزيد عن العدل  لقوله تعالى : {إن الله يامر بالعدل والاحسان}. وإذا ما أسقطنا هذا الأمر أو هذا الحكم الإلهي على ظاهرة الطلاق وجب على المطلقين ذكورا وإناثا أن يلتزموا العدل بعد فراقهم، وأن يزيدوا على ذلك الإحسان، وهو استيفاء العدل لتحقيق التقوى، وإلا فلا تقوى لمن لا عدل ولا إحسان بينهم. ولقد حذر الله عز وجل من الشنئآن المانع من تحقيق العدل فقال سبحانه : {ولا يجرمنكم شنئآن  قوم على ألا تعدلوا}. ومعلوم أن الطلاق شنئآن في حد ذاته، وهو مانع لتحقيق العدل في الغالب.

ج- التزام الصلح والإصلاح بين الزوجين في حال الشنئان :

وتحدث الله تعالى عن أحوال الناس في حال حصول الشنئآن  أو الطلاق، فقال سبحانه : { إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما}، فهذا تحفيز من الله عز وجل من أجل المحافظة على علاقة الزواج أو المودة والرحمة. والله تعالى  يسهل إصلاح ما فسد من المودة والرحمة، بقدر ما يتوفر من حسن نية تروم  هذا الإصلاح. والله تعالى يعلم الطرف الراغب في إصلاح المودة والرحمة من الطرف المقبل على  إفسادهما بالكراهية  الجالبة للظلم، لهذا يقول جل من قائل : {والله يعلم المفسد من المصلح}. وحتى لا يخاف المصلح من الخسارة طمأنه الله عز وجل بقوله : {إنا لا نضيع أجر المصلحين}. وجعل الله تعالى مسؤولية الإصلاح في أعناق الرجال لقوله تعالى : {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا}.

صور قاتمة لسلوكات ظالمة بين الأزواج

فإذا كان ما قدمناه يعتبر إطارا مرجعيا شرعيا لعلاقة الزواج والطلاق عند المسلمين، فما هو واقع حالهم قياسا على هذه المرجعية؟ فالواقع أن غالبية  المسلمين في زماننا هذا  لا يلتزمون بهذه المرجعية  سواء في  حالة علاقة الزواج أم في حالة انفصام هذه العلاقة. وإذا كانت مظاهر المودة والرحمة  أكثر في علاقة الزواج عندنا بغض الطرف عن صورية هذه المودة والرحمة في الغالب، فإن الغالب في حالة الطلاق هو غياب  المعروف والإحسان المطلوبين شرعا كشرط للتقوى الواجبة. فالملاحظ أن الأزواج الذين ينفصلون  عندنا تنشأ بينهم بالضرورة الكراهية السوداء إلا القليل ممن رحم الله عز وجل من المتقين. والمؤسف بل المحزن أن يدعي المنفصلون ذكورا وإناثا تقوى الله  شكليا من خلال مظاهر العبادة، بينما يضيعون أهم شرط التقوى وهو العدل  فيما بينهم في حال طلاقهم. فما أكثر ما يشيع فينا من المآسي المترتبة عن الطلاق والتي تمزق القلوب ألما وحسرة.  ومع أنه يوجد رجال يتحملون مسؤولية الطلاق وحدهم، وتوجد نساء يتحملن مسؤولية الطلاق وحدهن، إلا أن الغالب هو أن  هؤلاء وهؤلاء يتحملون جميعا هذه المسؤولية المشتركة بينهم مناصفة. وحسب كل رجل أو كل امرأة  ارتبطا فيما بينهما بعلاقة المودة، والرحمة، وضياعاها بسبب طغيان هواهما أنهما معا مسؤولان  أمام الله عز وجل عن ضياع هذه العلاقة. وحسبهما في حالة الطلاق أنهما  ضيعا هذه العلاقة  وأكثر من ذلك أساءا إليها،  فكيف يزدادان إمعانا في الإساءة من خلال استبدالها بالكراهية وبكل أنواع الظلم ؟ ولهذا يكون الظلم بين الأزواج الذين فرقهم الطلاق هو أقبح ظلم على الإطلاق، لأنه  ينقلهما من حالة المودة والرحمة إلى حالة الكراهية والقسوة، مع أن العدل مطلوب في حالة الطلاق، كما هو مطلوب في كل الأحوال لتستقيم الحياة بين الناس. ولا يحلو لبعض المطلقين رجالا ونساء ممارسة الظلم على بعضهم إلا  من خلال استخدام الأبناء الصغار دروعا بشرية. فكم من الأزواج ذكورا وإناثا لم يجدوا  ما يشفي غليلهم من الكراهية تجاه بعضهم البعض  في حالة الطلاق سوى حرمان بعضهم من مجرد رؤية الأبناء، أو الالتقاء بهم أو حتى تقبيلهم. وكل طرف يدعي أنه الأولى بالأبناء، والأجدر، ويتهم الطرف الآخر بعدم الأهلية، بل بالسفه الموجب لسقوط الأهلية. والحقيقة أن العدل يقتضي الاعتراف بالمساواة في علاقة الأبوة لدى الطرفين المطلقين  بالنسبة للأبناء. فلا يمكن أن تفضل الزوجة المطلقة زوجها في علاقتها بالأبناء، كما أنه لا يمكن للزوج أن يفضلها في ذلك. وإذا كانت ظروف الأبناء باعتبار أعمارهم، وما تقتضيه هذه الأعمار  من حاجات  ضرورية تفرض  وجود الأبناء بالقرب من هذا الطرف أو ذاك، فهذا لا يعني أن حق الطرف الآخر قد سقط بسبب ذلك. ولا يمكن أن تعود مسؤولية الأبناء إلى أب وحده، أو إلى أم وحدها  في حال طلاقهما، بل تبقى مسؤولية مشتركة، كما كانت في حال الزواج. والمسؤولية تقوم أساسا على الواجبات والحقوق، إذ مقابل كل واجب يوجد حق. فلا يمكن أن  يحرم أحد الزوجين من حقه في الأبناء  مع إلزامه بالواجب تجاههم. وما يقع في مجتمعنا الذي يدين الدين الصوري في الغالب هو سيادة الظلم الأسود بين الأزواج المطلقين. فإما  أن تستأثر الزوجة المطلقة  بالأبناء بإيعاز من أهلها الذين يعميهم الهوى، أو العكس وهو أن يستأثر الزوج المطلق بهم، وبإيعاز من أهله أيضا، أو من جبروته، ويصير الأبناء دروعا بشرية بين الزوجين في حرب ضروس، وأوراق مساومة من أجل ارتزاق الزوجة بتعويضات النفقة على الأبناء، أو من أجل تملص الزوج من هذه النفقة. وينتقل الظلم من الأزواج المطلقين تجاه بعضهم البعض إلى الأبناء  عندما يصيرون دروعا بشرية، أو أوراق مساومة وارتزاق.

وواقع الناس وممارساتهم مليئة بصور عديدة للتظالم والطغيان بين الأزواج في حال الاستقرار كما في حال الطلاق، ويُنسى شرع الله، وتنسى توجيهات ربنا ورسوله صلى الله عليه وسلم

في أصول الأخلاق ومكارمها.

      ذ. محمد شركي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>