وأقبلت الشعوب على المشروع الإسلامي


قبل أيام صرح الرئيس التونسي الجديد “المنصف المرزوقي” أن “الشعوب العربية أدركت أن الإسلام يمكنه أن يقدم حلولاً لمشكلات العصر” ومن ثم جاء الإسلاميون للسلطة”، وهذه قراءة سليمة لمفكر ورئيس دولة معروف بتوجهاته اليسارية” لأن الشعوب العربية جربت الحكم تحت مختلف الأنظمة الوضعية الفاسدة، وقاست في ظلها الويل والعنت وانتهاك الكرامة الإنسانية، ومن الطبيعي أن تلفظ الشعوب هذه المشاريع وتتجه صوب المشروع الإسلامي طالما أتيحت الفرصة للاختيار الحر النزيه. ويعنيني في هذا المقام أن ألقي نظرة على قضية التوازن بين الدّين والدنيا، تلك الخصيصة التي انفرد بها الإسلام، وجعلت كثيراً من الناس الذين فهموا الإسلام فهماً صحيحاً، يتخذونه شرعة ومنهاجاً في حياتهم، وهذا عكس ما ذهبت إليه الفلسفات والنظريات البشرية، فـقد وجدت في التاريخ جماعاتٌ، ووجـد أفراد، كل همهم إشباع الجانب المادي في الإنسـان، وعمارةُ الجانب المادي في الحياة.. دون التفات إلى الجوانب الأخرى ولسان حالهم يقول: {وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين}(الأنعام 29).

وهذه النزعة المغالية في الماديّـة وفي قيمة الدنيا، جديرةٌ بأن تولِّـد الترف والطغيان، والتكالب على متاع الحياة، والغرور والاستكبار عند النعمة، واليأس والقنوط عند الشدة، ومن ثم الاختلال في المواقف والتصرفات. وفي الطرف المقابل لهذه النزعة وأصحابها، وُجد آخرون من الأفراد والجماعات، نظروا إلى الدنيا نظرة احتقار وعداوة، فحـرّموا على أنفسهم طيّـبات الحياة وزينـتها، وعطّـلوا قواهم من عمارتها، والإسهام في تـنميتها واكتشاف ما أودع الله فيها. عُرف ذلك في برهميّـة الهند، ومانويَّـة فارس، وبدا ذلك بوضوح وجلاء في نظام الرهبانيّـة الذي ابتدعه النصارى، فعزلوا جماهير غفيرةً عن الحياة، والتمتع بها، والإنتاج فيها. هذا الاستقطاب أدى إلى شيوع مفهوم غير صحيح عن الدين والتـديّـن، مؤداه أن المتديِّـن الحق هو الذي يتبطّـل فلا يعـمل، ويتقـشّـف فلا يتمتّع، ويتبتّـل فلا يتزوّج، ويتعبّـد فلا يفـتر.. ليله قائم، ونهاره صائم.. يده من الدنيا صفر، وحظُّـه من الحياة خُبز الشعـير، ولبس المرقّـع، واتخاذ الفلوات سكناً. وكان اليهود الذين تفـرّقوا في الأرض يقوم تفكـيرهم وسلوكهم على الأنانية، ثم جاءت المسيحيّة تهتم بنجاة الفرد قبل كل شيء، تاركةً شأن المجتمع لقيصر، أو على الأقل، هذا ما يفهم من ظاهر ما يحكيه الإنجيل عن المسيح عليه السلام، حين قال: “أعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله”! وإذا طوينا كتاب التاريخ وتأمّـلنا صفحات الواقع فماذا نرى؟! في عالم اليوم نشهد صراعاً حاداً بين فلسفات البشر، فالرأسماليّة تـقوم على تـقديس الفرديّة، واعتبار الفرد هو المحورالأساسي، فهي تُدلّله بإعطاء حريّة التملك، وحريّة القول، وحريّة التصرف، وحريّـة التمتّـع.. ولو أدت هذه الحريات إلى إضرار نفسه، وإضرار غيره، ما دام يستخدم “حريّته الشخصيّة”، ومن ثم فهو يتـملك المال بالاحتـكار والحيل والربا، وينفـقه في اللهو والخمر والفجور، ويُمسكه عن الفقراء والمساكين والمعوزين، ولا سلطان لأحد عليه لأنه “حرٌّ”.

والمذاهب الاشتراكيّـة -وبخاصة المتطرّفـة منها كالماركسيّة- تقوم على الحطِّ من قيمة الفرد، والتقليل من حريّته، والإكثار من واجباته، واعتبار المجتمع هو الغاية، وهو الأصل.. وما الأفراد إلا أجزاء أو تروس صغيرة في تلك “الآلة” الجبّـارة، التي هي المجتمع، والمجتمع في الحقيقة هو الدولة، والدولة في الحقيقة هي الحزب الحاكم، وإن شئت قلت: هي اللجنة العليا للحزب، وربما كانت هي زعيم الحزب “الدكتاتور”. بين هاتين النزعتين “التفريط والإفراط” قام الإسلام، يدعو إلى التوازن والاعتدال، فصحّـح مفهوم الناس عن حقيقة الإنسان، وعن حقيقة الحياة، وبيّـن أن الحياة ليست سجناً عُوقب الإنسان به، ولا حملاً فرض عليه حمله.. إنما هي نعمةٌ يجب أن تُـشكر، ورسالةٌ يجب أن تـؤدّى، ومزرعةٌ لحياة أخرى هي خير وأبقى، يجب ألا يشغل الإنسان عنها، ولا يحيف عليها. والقرآن الكريم يدعو إلى العمل في الحياة، والضرب في الأرض، والسعي في مناكبها، والاستمتاع بطيِّـباتها، بجوار الحث على الاستعداد للآخرة، والتزود ليوم الحساب، وذلك بالإيمان والعبادة وحسن الصلة بالله، ودوام ذكره الذي تطمئن به القلوب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِين وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُومِنُونَ}(المائدة : 87- 88) {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الارْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}(القصص : 77).

وقد جاء الدين الإسلامي من عند الله تعالى ليقيم التوازن في الحياة، والقسط بين الناس، ويتناوله بصورة متـزنة رائعة، تـتوازن فيها مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، وتـتكافأ فيها الحقوق والواجبات، وتـتوزع فيها المغانم والتبعات بالقسطاس المستـقيم هكذا تخبطت الفلسفات والمذاهب من قديم، وتطرفت إلى أقصى اليمين أو اليسار، وبينهم وقف الإسلام ديناً قيماً معتدلاً وسطياً يراعي التوازن في كل شيء، ومن هنا أقبل عليه الناس حينما هزمت الآلة القمعية وترك لهم حرية الاختيار.

د . سعد المرصفي

 

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>