ألم قلم – من يحمي الإنتاج الوطني من الإفـلاس


ثلاثة أحاديث التقطتها في أوقات وأماكن متباعدة، لكنها كلها تحمل دلالة معبرة عن ضرورة حماية منتوجنا الوطني من الإفلاس.

أولها : قبل بضع سنوات، حدثني صاحب مقاولة للخياطة -وهو يشكو ما لحق به من إفلاس-  ذكر لي أنه كان لديه اثنتا عشرة آلة للخياطة، يشتغل بها اثنا عشر عاملا، وكان منتوجه من الملبوسات يُسوّق في أكثر من مدينة وفق طلبات من هُنا أو هناك، لكن فجأة -كما يقول- غزت الأسواقَ المغربيةَ ألبسةٌ صينيةٌ من قبيل ما كان يقوم بخياطته، وبأثمان رخيصة جداً، وبأشكال تثير الناظرين في مظهرها، فكَسَدت بضاعته، إلى أن اضطر إلى إغلاق محله، ومع إغلاقه بقي دون دخل، وبقي معه اثنا عشر شخصا دون عمل، ووراءهم من يعولون من أزواج وأولاد.

وثانيها : قبل أيام، حدثني فلاح عن منتوج فلاحي، كان يباع في موسم الحصاد، قبل سنتين بستين درهما للكيلو الواحد، وفي الصيف الماضي في وقت جمع منتوجه أيضا، كان الكيلو الواحد لا يقل  عن ثلاثين درهما، والآن في وقت زرعه، وعلى عكس سائر المزروعات، نزل ثمنه إلى عشرة دراهم وربما أقل، كل ذلك، حسب ما ذكر، بسبب غزو المنتوج الصيني الفلاحي للأسواق المغربية بشكل رهيب، هذا المنتوج هو “الثوم”، الذي كان العديد من الفلاحين يستعينون بمردوده المادي على مواجهة أعباء المتطلبات الفلاحية.

وثالثها :  قبل حوالي سنتين، حدثني شخص أجنبي، يقوم بأعمال الإيراد والتصدير بين المغرب وعدد من البلدان العربية والأسيوية والأوربية، وكان حسه التجاري يدفعه إلى معرفة أثمان السلع، كيفما كانت، في البلدان المختلفة، ليشتري ما هو أرخص في هذا البلد ليبيعه في بلد آخر. فلفت انتباهه أن “الزيتون” رخيص في المغرب، وغال في تركيا، ففكّر في توريده من المغرب إلى تركيا، لكنه اصطدم، حسب قوله، بنص القانونالذي يمنع استيراد الزيتون إلى تركيا من أجل “حماية المنتوج الوطني”.

نعم “حماية المنتوج الوطني” من الإفلاس، وحماية الاقتصاد الوطني من الانهيار.

نعم كلنا نرغب في أن تكون أسعارنا رخيصة، وندعو الله تعالى رغبة في ذلك. لكن رخص  الأسعار الذي نرجوه، لا ينبغي أن يكون على حساب المنتج، وفي الوقت ذاته ندعو مُلحين ألاّ احتكار لأي منتوج كيفما كان، والقانون الذي يحمي المنتج ينبغي أن يحمي المستهلك أيضا ضد أي احتكار كيفما كان نوعه.

لست منتجاً لأي شيء، باستثناء الكتابة بالقلم، ولكن مع ذلك من يتتبع ما يباع في أسواقنا يجد أنها مليئة بكل ما “لذّ وطاب!!” من المنتوجات الآتية من وراء البحار، سواء أكانت ملابس، أو مأكولات، أو أواني منزلية… أو، أو… مما هو شبيه مما ننتجه، ومما لا نستطيع إنتاجه، حتى “الجلابة” و”القفطان” اللذين يعتبران من صميم الإنتاج المغربي جاءانا من وراء البحار، بل وحتى الطاقيات والسجادات، تصنع هناك، هناك، ويؤتى بها لتمس أشرف عضو فينا: الرأس والجبهة، ولنستعملها في أول عبادة من عباداتنا؛ وهي الصلاة. وكأننا لم نصنع قط طاقيات ولا سجادات!! وكأن لم تكن لدينا عمائم ولا لبدات!! فمتى نقوم بحماية إنتاجنا؟ ومتى يكون مظهرنا أصيلا مرتبطا بعاداتنا وحضارتنا.

إنه إذا كان إنتاجنا الأصيل، وصناعتنا التقليدية المرتبطة بالهوية المغربية، يزاحَمان يوميا بالمنتوج الخارجي الذي يشوّه منتوجنا الوطني، ويضربه بالكساد، حتى تبورَ سوقه، ويفقد العمَل من يشتغل به، فهل سنجد من يفكر في إنتاج ما لا ننتجه؟؟ أكيد لا. وإذا كان الأمر كذلك فمتى يكون لنا اقتصاد وطني قوي؟

إنه من المستغرب حقا، أن تتحدث وسائل إعلامية منذ مدة، عن وجود أمراض في شمال المغرب، لا توجد في مناطق أخرى، وذلك بسبب العديد من المواد الغذائية التي تلج أسواق الشمال دون رقيب أو حسيب، ثم نجد بعد ذلك هذه المواد تُخصص لها محلات في العديد من مدن المغرب، وكأن الآتي من وراء البحار دائما هو الأجود والأسلم والأنسب للجسم.

إن التوعية الاجتماعية بمضار هذه السلع لا يعفي من وجود قوانين ضابطة ورادعة، تحمي المستهلك كما تحمي المنتج، وتحمي الإنتاج الوطني من شيئين:

- الدخيل المستورد غيْر المناسب.

- الغش وعدم الجودة في المنتوج الوطني.

وبدون ذلك سنظل نقتات على الدخيل لرخص أسعاره، وزهد تكلفته، فهو لا يكلفنا إلا جلبه في حاويات كبيرة. أما جودته وصلاحيته وملاءمته للبيئة، وأما حماية إنتاجنا الوطني مما يتربص به، فأمر لا يُفكَّر فيه، وإن فُكر فيه لا يُعمل بما يمكن أن يترتب عنه من قوانين أو قرارات، وهكذا…

د. عبد الرحيم بلحاج

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>