استعمالات اللغة العربية الجديدة إلى أين؟ – اللغة العربية بين تحمل أمانتها،ومسؤولية الـمحافظة عليها


يتألف عنوان هذه المقالة -كما هو واضح- من ثلاثة عناصر هي :

أ- اللغة العربية ب- تحمل أمانتها جـ- مسؤولية المحافظة عليها.

وبما أن العنصر المقصود هو اللغة العربية، فإن العنصرين الباقيين تابعين له ويخدمانه، وهذا يعني أن الذي يتحمل أمانة اللغة العربية لاعتبار من الاعتبارات تقع على عاتقه مسؤولية المحافظة عليها، والمحافظة على اللغة، أية لغة تعني الشيء الكثير، من ذلك على سبيل المثال : صيانتها مما قد يصيبها من التقهقر أو التلف لعامل من العوامل، وتطويرها عند سلامتها لتواكب تطور الحياة، ونشرها بأحدث الوسائل في شتى المجالات، والحرص على تلقينها لأبناء الأمة في الدرجة الأولى.. ويبدو أن الذي ساعد على إدراك قيمة ما ندعوا إليه بخصوص اللغة العربية في هذه الكلمة المتواضعة، هو تأمل دلالات الكلمات التي صغنا منها عنوان المقالة، بما في ذلك كلمة (لغة) فما معنى اللغة، وماذا تعنيه بالنسبة للإنسان بصفة عامة، أو لأي مجتمع متميز بصفة خاصة، وما معنى تحمل الأمانة حيال هذه اللغة، ومن المسؤول عن ذلك، ولماذا؟؟ أهي مسؤولية أفراد، أم مسؤولية جماعات، أم مسؤولية أنظمة؟ وهل هذه المسؤولية فرض كفاية بمعنى إذا قام بها البعض سقطت عن الباقي؟ أم هي فرض عين؟ ستبقى هذه الأسئلة معلقة حتى يحدد كل واحد مسؤوليته بالنسبة للغة العربية حسب قربه منها واهتمامه. فقط نسجل بعض الآيات القرآنية التي تتحدث عن أهمية اللغة في علاقتها مع الإنسان، ومفهوم المسؤولية، وهذه الآيات مصنفة كما يلي : قال الحق سبحانه :

1- أ-{الرحمن علم القرآن خلق الانسان علمه البيان}(الرحمن : 1- 4).

ب- {وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم}(إبراهيم : 4).

2- أ-{إنا عرضنا الامانة على السموات والارض والجبال…}(الأحزاب : 22).

ب- {إن الله يامركم أن تودوا الامانات إلى أهلها}(النساء ؛ 58).

جـ- {لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم(الأنفال : 28).

د- {فإن امن بعضكم بعضا فليود الذي أأتمن أمانته}(البقرة : 283).

3- أ- {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا}(الاسراء : 34).

ب- {ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الادبار وكان عهد الله مسؤولا} (الأحزاب : 15).

جـ- {وقفوهم إنهم مسؤولون} (الصافات : 34).

هكذا نلاحظ أن هذه الآيات التسع يمكن تصنيفها بخصوص علاقتها بالموضوع إلى ثلاثة أصناف. :

> الصنف الأول يثبت علاقة اللغة بالإنسان، فهي غريزة فيه حيث نشأ متميزا باللغة على سائر الحيوانات {خلق الانسان علمه البيان}، ولم يكن تعليم الحق سبحانه اللغة للإنسان عبثاً، وإنما كان ذلك لأداء وظائف معينه في الحياة {وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومهليبين لهم} فمن وظائف اللغة بالنسبة للإنسان أنها أداة بيان، ولذا يمكن اعتبار كل مسؤول في إطار مسؤوليته بمثابة رسول من حيث احتياجه إلى اللغة ليبين لمرء وسيه ما يدخل ضمن مسؤوليته، ومن جملة ما ورد من أقوال السلف في  معنى الآية (1) {علمه البيان} أي ((أسماء كل شيء (وهذا يتناسب مع قوله تعالى : {وعلم آدم الاسماء كلها}، والإنسان يراد به جميع الناس فهو اسم للجنس، و{البيان} على هذا : الكلام والفهم، وهو مما فضل الله به الإنسان على سائر الحيوان، وقال السدي : علّم كل قوْم لسانهم الذي يتكلمون به)).

> الصنف الثاني من هذه الآيات يتعلق بمفهوم الأمانة، وهذه الكلمة ((أمانة)) لها دلالة خاصة لا من حيث الحروف التي يتألف مِنْها أصلها وهي ((أ- م- ن)) ولا من حيث دلالة الكلمة التي تتألف منها هذه الحروف ((أمُن)) بضم الميم، وفعُل بضم العين أقوى من فُعِل بكسرها إذا احتمل عين الكلمة (أي وبسطها) أن يشكل بالحركتين معاً مثل ((فَقُِهَ)) بكسر القاف وضمّها يقول ابن منظور(2) : ((ويقال : ما كان فلان أمينا، ولقد أمُن يأمُنُ أمانة)) وعليه فـ(3) ((الأمانة مصدر “أمُن” بالضم : إذ صار أمِيناً، ثم سمي بها ما يومن عليه، وهي أهم من الوديعة… وكل ما افترض على العباد فهو أمانة كصلاة، وزكاة، وصيام، وأداء دين، وأوكدها الودائع وأوكد الودائع كتم الأسرار)). ويقول القرطبي (4) : ((والأمانة والعهد يجمع كل ما يحمل الإنسان من أمْر دينه ودنياه، قولاً وفعلا، وهذا يعم معاشرة الناس والمواعيد وغير ذلك، وغاية ذلك حفظه والقيام به، والأمانة أعم من العهد، وكل عهد فهو أمانة فيما تقدم فيه قول أو فعل أو معتقد)).

هكذا يتضح من تعريف الأمانة في النصين أعلاه أنها مفهوم عام يشمل كل ما يؤتمن عليه الإنسان. ولذا فاللغة داخلة فيما يؤتمن عليه كل مسؤول يتحمل جانبا من المسؤولية بهذا الخصوص، لأن اللغة جزء من الإنسان نشأت معه منذ بداية نشأته، فهي داخلة ضمن الأشياء التي فُطِر عليها لأن الفطرة(5) ((هي الصفة التي يتصف بها كل موجود في أول زمان خلقه)) قال تعالى : {خلق الانسان علمه البيان}. لكن السؤال الوارد هنا ما هي الأسباب الداعية إلى المحافظة على اللغة العربية إلى درجة تصنيفها ضمن كل ما يؤتمن عليه الإنسان؟

إن الذي يدعو إلى التنبيه للمحافظة على اللغة العربية وإحياء الشعور لتحمل هذه الأمانة بمسؤولية هو ما عرفته اللغة العربية وتعرفه من إعلان الحرب عليها إثر الغفلة التي أصابت العالم العربي الإسلامي، إلى درجة استباح غيره خيراته المادية معلنا الحرب على الجوانب المعنوية حتى لا تفتح منها نوافذ تنفس لليقظة الحضارية لاسترجاع الكرامة. لقد أصبح عدد غير قليل من أبناء الأمة معرضا عن لغته بسبب أو بآخر وفي هذا السياق يقول أحد الذين انتبهوا إلى هذه الهجمة الشرسة(6): ((كان من أهم أهداف الغرب المستعمر القضاء على اللغة العربية حتى يضمن بذلك قطع كل صلة بين المسلمين وبين تراثهم العربي الإسلامي، وخاصة كتاب الله الذي يريدون أن يصبح كتابا غير مفهوم إذا -لا قدر الله- ضعفت معرفة المسلمين والعرب بلغتهم، أو هجروا الفصحى، واكتفوا باللهجات المحلية…)).

لقد صدق صاحب هذا النص لأن المستعمر نجح في غزو  الأمة في هذا المجال إلى حد بعيد، وفي هذا السياق يعبر أحد الدارسين عما أصاب جهة من جهات العالم العربي الإسلامي من تشردم في هذا المجال بقوله(7) : ((تتميز الوضعية اللسانية بالبلدان المغاربية بتعدد لغوي يتشخص في (تواجد) ضربين من اللغات :

أ- لغات مدرسية كالعربية والفرنسية.

ب- لغات قبلية منحدرة من أمازيغية غابرة، ولهجات محلية متفرعة في معظمها من العربية، وهذا الضرب الأخير مستعمل جهويا للتواصل العادي في شؤؤن الحياة اليومية من الأمازيغيات يستعمل في المغرب أربعة… وما في الجزائر أكبر، وإذا أخذنا بمعيار اللغة الأم أو لغة المنشأ يتعيّن دسترة كل لغة قبيلة أو لهجة محلية باسمها الخاص… وكل مطلب من هذا القبيل فمن ورائه نية إلى إثارة فوضى لغوية في بلدان المغرب العربي، لا تنحل إلا بتبني إحدى اللغات الأجنبية، وفي ذلك بداية لنهاية حضارة عمّرت في المنطقة لما يقرب عن ألف وأربع مائة عام!)).

هذا النص ليس في حاجة إلى تعليق لأن لسان حاله يقول : ما هي اللغة القومية السائدة في هذه المنطقة الجغرافية التي ذكرها صاحب النص، وأي لغة من بين اللغات المذكورة هو السائد في إدارات هذه المنطقة ومؤسساتها العامة والخاصة؟ وهل يعمل مناصرو هذه اللغة أو تلك على جعلها لغة علمية سائدة في المنطقة في أقرب الآجال، وهل، وهل….؟؟

> الصنف  الثالث يثبت مسؤولية الإنسان عن أمانة اللغة، ولذلك فإن الآيات الأخيرة في التصنيف أعلاه تخاطب كل ضميرحي أن لا يكون من الذين يولون الأدبار في هذا المجال، وإلا فالمحاسبة التاريخية آتية لا محالة، لتقول لهم : {وقفوهم إنهم مسؤولون}.

  د. الـحـسـيـن گـنـوان

– —-

1- الجامع لأحكام القرآن 152/17-153.

2- لسان العرب ج 13 مادة أمن.

3- الكليات لأبي البقاء الكفوي ص 186.

4- الجامع لأحكام القرآن 107/12.

5- الكليات لأبي البقاء الكفوي.

6- المدخل إلى الثقافة الإسلامية ص 44.

7- التعدد اللغوي : انعكاساته على النسيج الاجتماعي ص 181.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>