على مطالع قرن جديد (5/3)


ثمة ما يوحي بالأمل، فإن كسور الحضارة المادية المعاصرة وشروخها ستزداد اتساعاً وعمقاً عبر العقود القادمة من القرن الجديد هذا.. إن معاناتها المكثفة أخذت تتضح أكثر فأكثر في العقود الأخيرة، وهي ولا ريب ستأخذ طريقها وفق متوالية حسابية، وربما هندسية، لكي تتضاعف على مستوى الكم والنوع على السواء.

والذي يؤكد هذا هم الغربيون أنفسهم، سواء منهم الذين انشقوا على هذه الحضارة وبدأوا يوجّهون إليها نقداتهم، أم الذين يعيشونها يوماً بيوم فيقدمون بسلوكهم وتجاربهم مثلاً حياً على الأزمة الضيّقة التي تأخذ بخناقها.. وهؤلاء وأولئك ليسوا ناساً عاديين أو هملاً، ولكنهم من قادة الفكر ورؤوس المجتمعات الغربية، وأقوالهم يجب أن تؤخذ على محمل الجد.. إنهم رجال من مستوى (اشبنغلر) و(توينبي) و(برناردشو) و(كولن ولسون) و(برتراند رسل) و(ياسبرز) و(كامي) و(همنغواي) و(ماسنيون) و(أرويل) و(كوستلر) و (جيورو جيو) و(ليوبولد فايس) و(فيتز جيرالد) و(سوليفان) و(بوازار) و(غارودي).. مؤرخون وأدباء ومفكرون وعلماء وفلاسفة، وقد وقفنا عند بعض شهاداتهم وحللنا دلالاتها في غير هذا المكان فلا مبرّر لإعادة القول فيها. والمهم هو أن “الشهادات” التي تدين الحضارة العلمانية المعاصرة ستزداد تنوعاً واتساعاً بمرور الزمن وستجعل إدانة هذه الحضارة أكثر عنفاً ووضوحاً.

وفي مقابل هذه الشهادات والإدانات ثمة الكثير مما قاله الغربيون أنفسهم عن مستقبل الإسلام.. وهي شهادات يتحتّم علينا ألاّ نحملها محمل الجدّ الكامل لأن القوم هناك يتمنون ويتنبأون هروباً من الأزمة التي تأخذ بخناقهم، ولأن أقوالاً كهذه قد تخدّرنا عما نعانيه فعلاً، وتعلّق أحلامنا وأهدافنا وأمانينا باليوم الموعود الذي تغنى به الغربيون، ولن تصنع هذا اليوم إلاّ عقولنا وسواعدنا.. ومن ثم فإن أقصى ما يمكن أن نفيده من شهاداتهم تلك هو تأكيد حقيقة أن العالم يعاني -فعلاً- أزمة قاسية، وأنه بحاجة – فعلاً – إلى قارب النجاة، قبل أن يموت أو ينتحر غرقاً..

والمسألة -كما هو واضح- ليست في إيجاد البديل، فها هو ذا ساطع بّين كالشمس والقمر.. ولكنهم – لأكثر من سبب- لا يعرفونه تماماً ولا يقدّرونه تماماً.. وإذن فإن المطلوب في العقود القادمة هو تحقيق القدرة على التوصيل.

إن الاستعداد للتقّبل سيزداد اتساعاً مع الأيام.. والفراغ الذي يتمخّض عن معطيات حضارة لا تعرف الله والإنسان، سيزداد عمقاً.. والتاريخ يصنعه أحياناً توقيت ذكي لإصابة الأهداف.. وها هي ذي الأهداف المواتية تدعونا، فلنعد للأمر عدّته فإن كسب رجل مثقف في عالم الغرب، رجل على مستوى (جرمانوس) أو (دينيه) أو (ليوبولدفايس) أو (بوكاي) أو (غارودي) أو (مراد هوفمان) لهو كسب كبير يزيد في رصيد الإسلام مرتين، مرّة بانتماء الرجل إلى هذا الدين ومرة بتوظيف قدراته لتوصيل قناعاته الجديدة إلى بني جلدته بلغتهم نفسها وقناعاتهم ذاتها.

ومع الأمّل الذي تبعثه فينا حاجة العالم المعاصر إلينا.. ثمة إضاءات قرآنية تنقدح في طيّات المستقبل الغامض كومضات النجوم الساطعة في السماء البعيدة.. وقد غدا الوميض البعيد، عبر مراحل متعددة من تاريخنا أمراً واقعاً.. ناراً في قلب العالم، على مساحات واسعة من أرضيّته، تحرق وتضيء في الوقت نفسه.

ولكن كيف؟

ليس بالأماني والظنون والأحلام، ولكن بالفعل والتحقّق والتخطيط والممارسة والجهد والمقاومة والحركة..

وما لم نعمل عقولنا وأذرعنا لإشعال النار المقدسة في صميم العالم فإن قبسها سيظل معلّقاً هناك في السماوات النائية حيث تغرق الدنيا في الظلام.. فلننظر إليها ولنعرف الطريق الذي يتحّتم أن نسلكه لتحويل الكلمات المضيئة إلى أفعال مضيئة، والنذر المتوعدة إلى نار مشتعلة: {فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين. ولنسكننكم الارض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد}(إبراهيم 13- 14).

{ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين}(الأنبياء 105- 106).

{وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الارض ومغاربها التي باركنا فيها}(الأعراف 137).

{إن الارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين}(الأعراف 128).

{ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أيمة ونجعلهم الوارثين. ونمكن لهم في الارض..}(القصص 5- 6).

{وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدّلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}(النور 55).

أ. د. عماد الدين خليل

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>