ومضات حديثية – النية وأثرها في قبول الأعمال(2)


عن أبي حفص عمر بن الخطاب ] قال سمعت رسول الله  يقول: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة  ينكحها فهجرته إلى  ما هاجر إليه<(1)

في العدد الماضي تناولنا التعريف بالراوي وسبب ورود الحديث وبينا أسباب حصر الأعمال في كونها بالنيات وفائدته ونتابع في هذه الحلقة استخلاص جملة معان ومستفادات

<< حصر ما للمرء فيما نوى

قال صلى الله عليه وسلم: ((وإنما لكل امرئ ما نوى))

النية نوعان :

>  النية التي تحدد  الوسيلة أي العمل، والمقصود بها النية التي يميّـز بها العبد بين عبادة وعبادة أو بين عبادة وعادة  كالتمييز بين  الصلاة الفريضة الحاضرة أو الفائتة أو النافلة  والتمييز بين الاغتسال للطهارة أو للنظافة وما إلى ذلك مما هو مفصل في كتب الفقه الإسلامي …

>  النية القصد أي المراد بعمل العامل وقد حدد الوسيلة.

أما النيّـة الوسيلة فهي ما ظهر من الإنسان والتي يتفاعل معها الناس بالتأثّـر إيجابا أو سلبا وبالحكم صلاحا وفسادا.

أما النيّـة القصد -وهي الأهمّ- فهي منزلة العبد التي يُـنِزل فيها نفسه من ربه جلّ وعــلا.

وقوله صلى الله عليه وسلم : ((وإنما لكل امرئ  ما نوى)) يستفاد منها:

> أن العبد بإمكانه أن يتوجّـه بعمله مهما كان لأيٍّ كان فبإمكانه أن يتوجّـه بالعمل الصالح الكبير  ويبتغي به وجه الله الكبير وهذا هو الأصل.

> كما أن بإمكانه أن يتوجّـه بالعمل الصالح المبارك  لغير الله تعالى، وأن يقوم بالعمل الفاسد ويدّعي أنه يريد به وجه الله الغنيّ الحميد…

ففي كل هذه الأحوال  له ذلك، بمعنى أن قصده يحترم بِغضّ النظر عن كونه منسجما مع شرع الله تعالى أو متناكدا معه.

> إن الإخبار بأن العامل له ما نوى بعمله لا يعني أن كل عامل ينال مراده من عمله.

ولما كان القصد لا يخرج عن كونه لله ورسوله أو لغير الله ورسوله (كائنا من كان)

فإن الحديث بيّــن النتيجة بهذا التقسيم الثنائي الحاصر فقال :

((فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله…))

((ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها…))

-  “فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله” والتعبير بالهجرة يراد به التمثيل للعمل الصالح ولا يراد به  حصر العمل الصالح في الهجرة ، فقد كانت وقت ورود الحديث من أجلّ الأعمال وأبرّها وأحبها إلى الله تعالى. بل كانت ثمرة الإيمان الأولى التي تمهد للجهاد(2) وشرط ولاية المؤمنين(3) وقد كان المشركون يمنعون المؤمنين من الهجرة فلا يُـقـدِم عليها  إلا مؤمن صادق…

وبيّــن أن هذا العامل ينال المراد بعمله الصالح وقصده الصالح سواء تمكّـن من إنجازه أو حيل بينه وبين ذلك  بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : ((فهجرته إلى الله ورسوله)) وهو رضوان الله تعالى وحسن ثوابه،  قال تعالى : {ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما}(النساء : 99).

-  ومن كان يريد غير الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بعمله، وإن كان هذا العمل صالحا، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها)).

وهذا مثال لعمل كبير ينجز لتحقيق غاية صغيرة. أو لعمل فيه طاعة خُـلِق لها هذا الإنسان يريد بها أشياء خُـلقت في أصلها لهذا الإنسان. فإنه -في هذه الحالة- موكول إلى قصده.

والتمثيل بالدنيا والمرأة لا يفيد الحصر وإنما جاء منسجما مع قصد مهاجر أم قيس ومعبرا عما يقصده الناس في الغالب وإلا فقد يكون القصد من العمل أقل وأذل وأحقر من قصد الجُـعـل(4).

إن الإخلاص في العمل الصالح لا يمنعه من تحقيق ما هو له بالسنن كالذي يأكل الطيِّـب ليتقوى على طاعة الله تعالى لا يمنعه من الشبع، قال صلى الله عليه وسلم: ((مثل الذي يعمل ويحتسب في صنعته الخير كمثل أم موسى ترضع ابنها وتنال أجرها)).

>  والصواب في الوسيلة لا يعني بالضرورة  الصواب في القصد، فالأول أسهل وأبعد من أن يدخله شرك أو رياء… وهو إنما يتوقف على العلم بالأحكام الشرعية لما يقوم به من أعمال ويؤطِّـر أعماله بهذه الأحكام  ويعلم أن الله تعالى أمر بها أمرا(5).

أما الثاني فهو مجال الإخلاص وهو الذي تعترضه عقبات كثيرة : النفس والهوى، والشيطان والورى…

وصيغة الجمع في الأعمال وفي النيات دليل لطف الله تعالى وكبريائه وجبروته لأنه يفيد أن لكل عمل نيّــة خاصة فإذا صح(6) وصحت نيّــته اعتُـبِـر، فهو دعوة إلى التيقظ والحذر وإلى التدارك والتصحيح.

> إن قيمة العمل يمكنه أن يأخذ المدى الذي يعطيه إياه عامله وهذا راجع إلى حدود معرفته وعلمه بما يصلح له العمل، من ذلك على سبيل المثال أن الذي يقصد بيت الله الحرام ينوي الحج أو العمرة أو هما معا وله ما نوى. لكن هناك من يقصد البيت الحرام وينوي، بالإضافة إلى ما سبق ذكره من النسك، أنه يعمُـر المسجد الحرام نيابة عن الأمة لأن ذلك فرض كفاية ليسقط الإثم عن بقية الأمة وله ما نوى أيضا.

ولا شك أن هذا الأمر لا ينويه إلا من علمه،  ومرة أخرى نشعر بشدة حاجتنا إلى معرفة الأحكام الشرعية لأنها تنير لنا الطريق ليس على مستوى العمل ولكن أيضا على مستوى النية . وكما أن الناس بإمكانهم أن يتفاوتوا في العمل فإنهم يتفاوتون في النيات وصدق من قال : {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الالباب}(الزمر : 10).

>  إن من لطف الله تعالى أن يجعل للمرء ما نوى ولم يجعل له ما أنجز في الواقع، ذلك بأن الواقع مادة وأسباب وأقدار يتفاوت فيها الناس ولا تتكافأ فيها فرصهم وعدل الله الكريم يأبى ذلك.

هذا من جهة ، ومن جهة أخرى حتى بالنسبة لمن توفرت لهم الأسباب فإنهم يخضعون لسنن الله تعالى في كونه ولما تعلقت به مشيئته، وليس هناك لزوم بين ما يختاره العبد ويخطط له وبين ما ينجزه.  فكأن نية العمل والتخطيط له يمثل الجانب النظري بعيداً عن المؤثرات المادية التي تتفاعل في الواقع. أو بعبارة أخرى كأنه يُـنجَـز في عالم المثال ولكن عندما ينتقل العبد إلى تنفيذ خطته  وإنجاز العمل الذي قصده قد  يصطدم بعوائق تمنعه من إنجازه كُـلاّّ أو بعضا أو تمنعه من إنجازه على النحو الذي أراد …في هذه الحالة يكون عمل العبد أقلّ من قصده.

إن نـيّـة العمل تتم على مستوى الروح والقلب والفكر فهي تمثل المطلق الكامل  بينما تنفيذ العمل يتم على مستوى المادة والإمكانات المتاحة فهي تمثل الجانب النسبي الناقص بسبب العجز أو الضعف أو الغفلة أو النسيان أو الاختلاس أو الإكراهات…

وربنا الكريم المتصف بكل كمال يرحم ضعفنا وعجزنا ويتجاوز عن خطئنا ونسياننا ويجزينا بما هو  له أهل أي بجهة الكمال فينا.

ظاهر العمل وقيمته عند الناس أي حكمهم عليه :

القصد من  أي عمل له أثر حاسم في تحديد  قيمته عند الله تعالى وتترتب عليه  فروق شاسعة بين العاملين بسبب اختلاف نياتهم  فيه.

إن العمل يستمد قيمته مما هو وسيلة إليه.

وإن العامل يستمد قيمته مما هو قاصد بعمله.

ومن الفوائد التي نستخلصها من قصة مهاجر أم قيس هي ضرورة  مراعاة الحدود في الحكم على الأعمال ، والاكتفاء بالحكم على ظواهرها والحكيم الخبير يحكم على جواهرها. لأن الباطن سر بين العبد وربه، هو وحده العالم بالنوايا والخفايا والخبايا ولا حكم على القصد إلا بهذا، ولما كان هذا من اختصاص الله تعالى فإن الحكم على أعمال الناس يبقى لله جل وعز …: {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى}(النجم : 31).

هذا في الأعمال الصالحة أما في الأعمال المخالفة لشرع الله تعالى فإن الحكم عليها في متناول العلماء بالشريعة. ولا يقولـنّ  أحد يخالف شرع الله الكريم :”هذا بيني وبين خالقي هو وحده المطّـلع على السرائر”.

وهذا من روائع هذا الدين أن الحياة تنضبط بتعاليمه انضباطا : الظاهر منضبط بالأحكام الشرعية والأدلة منصوبة عليها يعلمها أهل الذكر ويحكمون بها على أعمال الناس حلالا وحراما ، صلاحا وفسادا …

والباطن سر بين العبد وخالفه ، وله سبحانه في خلقه شؤون وفي مملكته تدبير.

وفي هذا المعنى يأتي قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أُمِـرْنا أن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر))(7).

((فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه)):

مهاجر أم قيس: مظهره صلاح وهجرة

ومخبره رغبة في متاع الحياة الدنيا

ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل

مسـتـفـادات

>  تحذير الإسلام من كثير من مظاهر الصلاح  قال تعالى: {وإذا رأيتهم  تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم…}(المنافقون : 4).

قال صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {….ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمرّ من الصبر….يلقاك بوجه أبي بكر وقلب أبي لهب…}.

> الإسلام يتوجه بالأساس إلى الإنسان المسلم ليصلح نيّــته ويرفع همّـــته ويقصد وجه الله الكريم من كل عمل صالح. ولا يضيع عمله بنيّّّــة فاسدة ولا يبخس عمله بهمة نازلة قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم..}(محمــد : 34).

> كم من مسلم يقوم بأعمال كبيرة وفي قلبه أغراض وأهداف حقيرة، جاء رجل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل ليقال شجاع…أيهم في سبيل الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله))(8).

> إن الإسلام يتوجه إلى الإنسان المسلم ليكون فطنا وحذرا ولا ينخدع بالمظاهر قال تعالى : {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشـهد الله على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام و إذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك لحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالاثم فحسبه جهنم ولبيس المهاد…}(البقرة: 202- 204).

> ولا ينساق المؤمن وراء كل ناعق وقد وصف الحبيب صلى الله عليه وسلم المؤمن بأنه كيّـــس فطن.

ويرحم الله راوي الحديث الذي يعرف ما يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقدر قيمة الكلام الذي يرويه عنه صلى الله عليه وسلم ويعمل بمقتضى هذا الكلام، عمر رضي الله عنه يقول: “لست بالخب ولا الخب يخدعني”.

إن الإسلام لا يسعى إلى ضرب الثقة بين الناس وزرع الشك والريبة ..بل بالعكس من ذلك الإسلام يسعى إلى بناء مجتمع تسوده الثقة .

إن الذي يزرع الريبة والشك بين المسلمين وفي المسلمين هو الخداع والغدر.. والخداع والغدر إنما يقع ضحيته الذي يبالغ في الثقة .

هناك من يبالغ في الثقة لأنه ينخدع بالمظاهر فإذا وقع فريسة الغدر فًـقًـد الثقة في الناس أجمعين. فصار يلعن المسلمين والمؤمنين والمتقين والصالحين وعباد الله المخلصين والناس أجمعين… وهذا خطأ مركب وقع فيه، إنه أخطأ أولا عندما بالغ في الثقة ولم يسمع لتوجيهات القرآن الكريم وهو يصف بعض الناس(9) بقوله تعالى : {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا …}(البقرة : 202) وقوله تعالى : {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة…{(المنافقون : 4).

وأخطأ ثانية عندما رأى الناس كلهم ذئابا  بقياسهم  جميعا  على رجل غدار، وأنكر أن يوجد في الأمة الصلاح، والحق أن الخير لا ينقطع من أمة الحبيب صلى الله عليه وسلم.

> الإسلام يحرص على صلاح الظاهر وصلاح الباطن ولا يكتفي بصلاح أحدهما.

>  إن المؤمن يعلم أن المؤمن لا يقصد بعمله إلا ما شُـرع له العمل من المقاصد الشرعية التي تستجيب لحاجة الفرد وحاجة المجتمع وتحقق مصالحهم في الدنيا والآخرة. وهذا من شأنه أن يبسط رداء الثقة بين المؤمنين ويُـشعـر بالأمان .

> وإن الذي يمتطي العمل الصالح ليحقق أغراضا  دنيوية زائلة  يحرم نفسه من ثواب الآخرة ويساهم في حرمان المجتمع من الثقة دون أن يغيّـر شيئا فيما قسم الله له. : {يخادعون الله والذين آمنوا وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون..}.(البقرة : 8).

وفي الختام نسأل الله الكريم أن يجعل سرائرنا خيرا من ظواهرنا وأن يجعل ظواهرنا خيرا.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

  د. لخضر بوعلي

——

1- أخرجه البخاري في الصحيح كتاب بدء الوحي  باب كيف بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

2- قال تعالى : {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله…} تأخرت عن الإيمان في النص القرآني لأنها تنتج عنه وتقدمت عن الجهاد لأنها تمهد له.

3- قال تعالى : {والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا…}(الأنفال : 75).

4- النبي صلى الله عليه وسلم يضرب به المثل في الخلق الأهون على الله تعالى بالنظر إلى ما يبذله من جهد جبار وهو يدفع كرة من الروث.

5- أمر الله تعالى بالفعل أو الترك  أمرا جازما أو أمرا غير جازم وهو معنى الخطاب الشرعي.

6- (أي العمل)

7- البخاري في كتاب المغازي ومسلم في كتاب التوبة

8- البخاري في كتاب العلم وكتاب الجهاد ومسلم في كتاب الإمارة وكتاب الجهاد.

9-  إن القرآن الكريم لم يصف هؤلاء إلا بقصد التحذير منهم وإلا فما يكون قصد الكريم من ذلك سبحانه؟.

 

 

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>