قـوانـيـن  الـقـرآن  الـكـريــم (24) قانون النية الحسنة


الإخلاص وحسن النية عبادة القلب

… القانون اليوم قانون النية الحسنة.. الحديث الأصل في هذا الموضوع قول النبي عليه الصلاة والسلام ((إنما الأعمال بالنيات)) ولكن بادئ ذي بدء ينبغي أن نعلم أن علة وجود الإنسان في الأرض أن يعبد الله. والعبادة في حقيقتها طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية.

العبادة نوعان: عبادة الجوارح وعبادة القلب. عبادة الجوارح أن تنصاع الجوارح لمنهج الله طاعة والتزاما، ولكن عبادة القلب الإخلاص لله، فالعمل لا يقبل عند الله إلا إذا كان خالصا وصوابا، خالصا ما ابتغي به وجه الله، وصوابا ما وافق السنة. فكأن النية الحسنة التي وراء العمل تقيمه، بل إن قيمة العمل الصالح تتحدد قطعا بنيته ((إنما الأعمال بالنيات)).

أما الآية الأصل في هذا الموضوع قوله تعالى {فاعبد الله مخلصا}(الزمر : 2) عبادة القلب الإخلاص، وعبادة الجوارح الانصياع، وأهل هذا المعنى الحديث الشهير ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)) وقد جاء في أسباب وروده أن  أحد الأشخاص أحب امرأة في المدينة المنورة، فاشترطت عليه من أجل أن تقبل بالزواج منه أن يهاجر إليها، فهاجر إليها، فهذا هجرته إلى امرأة لا إلى دين الله، ولا إلى الشرع الحكيم.

…أصل العمل النية الطيبة، لكن هذه النية لا تكون تقليدا، النية الحسنة محصلة معرفة الله، محصلة طاعته، محصلة جهاد النفس والهوى، محصلة الالتزام بأمره.. كل أعماله تتوجها هذه النية الحسنة، أما أن نقلد نية حسنة، ونحن لا نملك مقوماتها، هذا شيء مستحيل. على كل بشكل أو بآخر القلب عبادته النية الحسنة، عبادته الإخلاص.

علامات الإخلاص

> 1- تساوي العمل في الخلوة والجلوة :

ولكن قد يسال أحدكم ما علامات الإخلاص؟ قضية داخلية، قضية لا تظهر، قضية يعاني منها القلب ما يعاني، فكيف نعرف ما إذا كنا مخلصين أو غير مخلصين؟

العلماء قالوا عملك الصالح، عباداتك إذا تساوت في خلوتك وفي جلوتك، فهذه علامة طيبة لإخلاصك. العبادات والأعمال الصالحة لا تتأثر لا أمام الناس ولا في خلوتك، إن كانت خلوتك كجلوتك، وإن كانت سريرتك كعلانيتك، وإن كان سرك كجهرك، وإن كان باطنك كظاهرك، العمل هو هو، الورع هو هو، الاستقامة هي هي، ما دامت الأعمال والعبادات متساوية في سرك وجهرك، فهذه علامة نيرة على إخلاصك، هذه علامة.

> 2- عدم تأثر العمل بالمديح أو بالذم

علامة ثانية، حينما لا يتأثر العمل لا بالمديح ولا بالذم، إنك تبتغي وجه الله {إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا}(الإنسان : 9) لذلك فالمخلص لا يتأثر عمله لا بثناء الناس عليه، ولا بذم الناس له، هو يبتغي بهذا العمل وجه الله، لذلك أحد أسباب قوة شخصية المؤمن أنه لا يعلق أهمية على مديح الناس ولا على ذمهم، مع أن الأولى بالإنسان أن يبتعد عن كل شبهة، وينبغي ألا يورط نفسه في سمعة هو بريء منها، من عرف نفسه ما ضرته مقالة الناس فيه، فحينما لا يتأثر العمل لا بمديح الناس ولا بذمهم، هذا دليل الإخلاص. وهذا يورث قوة الشخصية، هناك أناس كثيرون حينما يقومون بعمل يستجدون المديح، وحينما يستجدون المديح تضعف شخصيتهم، لأنه بعيد عن الله عز وجل، يبتغي من هذا العمل السمعة والرياء، إذن هو يدعو الناس إلى أن يثنوا على عمله، فاستجداء المديح يضعف شخصية الإنسان، وهذا بسبب عدم الإخلاص، فإذا كنت مخلصا، لا تعبأ أأثنى الناس عليك أو لم يثنوا، سيان عند الله وعند الناس.

> 3- سكينة القلب :

… الأولى أن يستوي العمل في السر والجهر، والثانية أن يستوي العمل في المديح والثناء،أو في عدم المديح وعدم الثناء، ولكن العلامة الثالثة أنك إذا كنت مخلصا أورثك إخلاصك سكينة تسعد بها ولو فقدت كل شيء، وتشقى بفقدها ولو ملكت كل شيء. مستحيل وألف ألف مستحيل، حينما يرتفع عملك إلى الله مع إخلاصك، حينما تبتغي وجه الله، حينما تؤثر طاعة الله، حينما لا يعنيك أن تتحدث للناس عن هذه الأعمال فأنت مخلص. إذن مكافأة الله لك أنه يلقي في قلبك سكينة تسعد بها أيما سعادة، بل إن هذه السكينة التي ألقاها الله في قلب المخلص، لو وزعت على أهل بلد لكفتهم.. إذن عبادة القلب الإخلاص، والإخلاص له علامات واضحة، بل إن الإخلاص يهب المؤمن قوة الشخصية، وحكمة بالغة لو وزعت على أهل بلد لكفتهم.

من فضله سبحانه على أهل الإخلاص

..من علامات الإخلاص أيضا، أو من خصائص الإخلاص أنك إذا بدأت بعمل، وحالت ظروف بينك وبين أن تنهيه، كتب الله لك الأجر كما لو أنك أكملته، هذا شيء رائع جدا، هذا شيء لا يطبق في علاقات الناس، هذا الشيء تؤكده هذه النصوص الرائعة، الله عز وجل يقول {ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الارض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله}(النساء : 99) في عالم الدنيا وفي عالم الناس لا تنال الأجر إلا بالإنجاز، لكنه عند الله عز وجل يكفي أنك بدأت بعمل، وكنت فيه مخلصا فوصلت إلى النهاية أو لم تصل، الأجر هو هو، وهذا من كرم الله جل جلاله.

 النية تحكم العمل

.. الأعمال تستوي في ظاهرها وتختلف في نواياها، أضرب على ذلك مثلا، إنسان يمشي في الطريق، وجد في الأرض ليرة ذهبية، فانكب عليها وأخذها، ووضعها في جيبه وصورناه. إنسان آخر، وضعنا في الطريق ليرة مشابهة للأولى، فانكب على هذه الليرة وأخذها وصورناه. لو عرضنا الصورتين، الصورتان متشابهتان مائة بالمائة، لو أن الأول في نيته أن يبحث عن صاحبها لكان عمله صالحا، والثاني في نيته أن يأخذها لكان عمله سيئا، إذن قد تتشابه صور الأعمال وقد تختلف النوايا بين حسنة وبين سيئة.

مثل آخر إنسان قدم أرضا لبناء مسجد، هذا عمل عظيم ومحسن كبير، إنسان جاء من يهمس في أذنه أنك إذا تبرعت بأرض لمسجد، ربما اضطرت البلدية لتنظيم أرضك وجعلها مقاسم مقاسم، عندئذ ترتفع أسعارها، هو لا يعنيه موضوع الجامع إطلاقا، أما أمام الناس قدم أرضا لمسجد. فالأول والثاني في الظاهر أعمالهما متشابهة تماما، لكن العمل تحكمه النية… بل إن النوايا الطيبة تحول العادات إلى عبادات، فالمؤمن عاداته.. أكله وشربه، وثيابه وحركته وزياراته كلها عبادات، لكن غير المؤمن تعد عباداته التي يرائي بها الناس سيئات. فبالنية الطيبة تتحول العادات إلى عبادات، وبالنية السيئة تتحول العبادات الصرفة إلى سيئات… إذن أبخل الناس من بخل بنية طيبة يسأل الله بها عملا صالحا يقربه إليه..

إلى لقاء آخر إن شاء الله تعالى..

لخبير الجمال الدعوي الدكتور محمد راتب النابلسي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>