أوراق شاهدة – الرساليون قادمون


فيما يشبه موجات تسونامي عارمة; توالت التصريحات المشحونة بالعدوانية تجاه الانتصار الساحق لحزب العدالة والتنمية  المغربي في الانتخابات البرلمانية التي عرفها المغرب. وإذا كانت بعض التحليلات على المستوى الإعلامي على سبيل المثال، قد جاءت على لسان أصحابها متحصنة ما أمكن بقناع الحيادية، فإن تحليلات أخرى أخلت بواجب الاحترام  لمهنيتها، ووضعت قدسية الخبر جانبا وأطلقت العنان لإسهال لفظي  جارح تمادى في عدوانيته حد الوقاحة تجاه ما أسماه أصحابها بالحكومة الإسلامية، وذلك بإطلاق منابر صحفية لتحذيرات أشبه في تفاصيلها بالهلوسة، لقرائها، داعية للمخمرين منهم للتوقف عن الشرب لأن القصاص الإسلامي لا مزاح معه، كما دعت الفتيان والفتيات لتجنب إظهار مشاعرهم العاطفية علنا تجنبا  لغضبة إسلامية غير حميدة.وكبرت فقاعة الصابون وعلا جبل الجليد  في اتجاه شيطنة الحزب وبرنامجه وتوجهه وجرجرة الإسلام من ورائه، وخلق جدار عازل بينه وبين أطياف الشعب المغربي ، خاصة فيما يتعلق بأصحاب العقول المحدودة، ولم يفطن أصحاب هذه الحمى إلى أن القاسم المشترك بين كل المصوتين لفائدة حزب العدالة والتنمية، كان هو العطش الروحي ونداء الفطرة المتشوقة إلى ربها في كل حركاتها وسكناتها، والضجر الجلي من وصفات تيارات عديدة ترادف اعتلاؤها لسدة الشأن العام مع تنامي موجة إبعاد الدين عن التدبير العام لشؤون المواطنين رغم الرتوش والترقيعات الدينية المعدة للمناسبات مما نتج عنه سريان بقعة الفساد، وبالتالي تفاقم هشاشة النسيج الاجتماعي على المستوى المادي والأخلاقي  حيث انتقلت العدوى من الحاكمين إلى المحكومين ، عدوى الغنيمة وعدوى أنا وبعدي الطوفان يقدمها مفهوم (دير علاش ترجع) الشيء الذي تمخض عنه  ضعف الروابط الإنسانية، واستشراء العلاقات النفعية المادية المبنية على (قل لي كم عندك أقول لك كم تساوي)، وفي نفس الآن تعرضت قيم الاستقامة والنزاهة وخدمة الصالح العام وقضاء حاجات الناس إلى تشويه عميق صارت بمقتضاه هذه الصفات  علامة على البلاهة والبلادة والتخلف، وفي نفس السياق تم التربص بأهل الشأن الديني والحجر على حقهم الرباني في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وباسم (مفهوم في سبيل الله) الذي تم تمييعه، أهدرت حقوقهم المادية في العيش الكريم وخصصت لهم منحات هزيلة، وقدأخبرني أحد من يعمل أخوه في عيادة بيطرية أن حصة غسل وحلاقة وعطور كلاب أصحاب المقامات العالية كل ثلاثة أيام تساوي 300 درهم، وأن زوجة أحد هؤلاء المتنفذين وكان كلبها “الكانيش” يعاني من مرض داهم، جاءت العيادة باكية وصرحت للطبيب أنها مستعدة لدفع أكثر من عشرين مليون فرنك لإجراء عملية تعيد لكلبها صحته وعافيته، الشيء الذي يذكرني بقصيدة الشاعر المصري فؤاد نجم الرائعة جدا والتي عض فيها الكلب مواطنا معدما وبسبب تنفذ صاحبة الكلب في جهاز السلطة اعتذر المواطن للكلب بقاعة المحكمة واعتبر نفسه هو من عض الكلب وهو من يستحق القصاص.

وأمام هذه الأحوال المهينة للدين، كان لابد للسنن الربانية أن تجري لمستقر لها ويقدم سبحانه إلى ما يعمل المبطلون من عمل ويجعله هباء منثورا ويجعل الزخرف والزينة الزائفة حصيدا كأن لم تغن بالأمس.

وسواء توقفنا عند الحالة التونسية أو المصرية أو الليبية  إلخ… فإن القاسم المشترك الذي غدى حركات الاحتجاج ودفع ملايين الأشخاص إلى كسر حاجز الخوف وإعلان رفضهم لتواصل مسلسل الاستغباء  والتهميش، هو قيام مشاريع وبرامج الحكم على الأهواء والجشع والتهالك على التبذير الأسطوري في الملذات مع تضخم الأنانيات الحاكمة بغير ماأنزل الله عز وجل من تشريعات، وهي التشريعات الحكيمة التي راعت في أصلها قبل ابتذالها، كرامة وحقوق المحكومين.

قال تعالى  : {ولقد كرمنا بني آدم} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أيما راع مات وهو غاش لرعيته فهو في النار)).. وهي الأهواء التي أحالت الحاكم إلى كيان خرافي محشو بالتسلط  حد الشطط المفرط الذي يقزم المحكومين إلى مجرد “جرذان”.

وقد رأينا في الحالة الدرامية الليبية كيف أن القائد الملهم الذي ظل يصف شعبه المعارض بالفئران يتم الإمساك به في حفرة وتماما كما الفأر المحاصر يخرج في حالة تلف وارتباك، وكانت عليه دائرة السوء مصداقا للسنن الربانية في الكيد المتين لرب العالمين تجاه الظالمين.

وبصيغة أخرى فإن ما تمخض عنه الحراك الجماهيري في هذه الدول العربية ما كان ليعيد تكريس بنيات إيديولوجية مستوردة كالقومية المفتتة والاشتراكية المفترسة والليبرالية المتوحشة لأنها تحمل في جيناتها قصور المخلوق ومحدودية اجتهاده ودليل هذا القصور هو إفلاسها في محاضنها الغربية رغم المراجعات وحركات الإصلاح بداخلها. ومؤخرا ظهرت أصوات لفلاسفة غربيين تدعو الشعوب الى استعادة زمام المبادرة ورفض الانسياق وراء أنظمة غربية خربة من الداخل سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي..

وقد رأينا كيف خرج آلاف الغربيين إلى الشارع للمطالبة بإسقاط النظام المالي المتوحش.، ورأينا كيف أن زعيما غربيا يقامر بصورة بلاده، وهو في انزلاق سلوكي رفقة مراهقة مغربية يجعل كل مواطنيه يوارون وجوههم خجلا من مغامراته وانحرافاته.. في حين تضعنا المنظومة الإسلامية سواء في عهد التدبير النبوي أو عهد الصحابة والتابعين أمام نماذج للسياسة الشرعية للرعية، أجزم أن أعرق الديمقراطيات تقف عاجزة عن تبني روحها وتجلياتها.

وبالعودة إلى الحراك المغربي فقد كان حريا بالذين أسالوا مدادا كثيرا في النبش في سيرة صعود إسلامي غير منتظر في أجندة الجاهلين بالسنن الإلهية، أن يتدبروا في قوله تعالى : {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم}.

ولأن الشيء بالشيء يذكر فمباشرة بعد فوز حزب العدالة والتنمية وفي لحظة برقية انبثقت إلى الوجود حركة نسائية سمت نفسها : (العيالات جايات) وفي بيانها الذي ألقته في ندوة صحفية أعلنت أنها ستتصدى لكل محاولات الالتفاف على حقوق المرأة. وكل لبيب لن يجهد فكره كثيرا ليفهم أن الرسالة موجهة للحزب الذي جاءت به صناديق الإقتراع.

إنه التقصير الواضح من طرف النخبة في مفهوم المسؤولية أمام الجماهير وهي في أمس الحاجة إلى التأطير والتوجيه الصادق لتخرج من حالة الهيجان والانفلات إلى حالة الهدوء والتوازن لمواكبة سفينة الإصلاح، وتعضيد التداول السلمي للسلطة في إطار من المساندة النقدية والرقابة الموضوعية والنزيهة، عوض الرقابة التربصية التي تتسقط العورات وتتصيد الزلات وتقيم الفخاخ للمصلحين الغافلين في أفق إشهار عوار تجربتهم للعالمين.

ومع ذلك ففي تونس كما في مصر كما في المغرب، الرساليون يحلون تباعا لتصدر مشهد التدافع، ومن تلافيف فيالق الهمزة اللمزة يتأهبون لشق العتمات المستحكمة.. وقوافلهم الرسالية  الربانية تمضي غير منصتة إلا لجلبة خيل الله تدعوها للركوب إلى الخيرات، وسماحة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يفتح مكة كريما ابن كريم، تحفزها لتمثل أخلاق العفو. وفي ذلك قوتها الضاربة قوة العفو حبا ورحمة لا تكبرا، والله مع المتقين كما أن الله لا يضيع أجر المحسنين.

ذة. فوزية حجبي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>