حلاوة الدّعوة إلى الله تعالى والدفاع عنها وتصحيح مبَادئها (4)


حـلاوة تصحيح الانزلاقات الطينية :

المواجهة الساخنة بين العالم الرباني منذر بن سعيد والخليفة الناصر لدين الله تعالى بالأندلس

أقبل الخليفة عبد الرحمان الناصر لدين الله تعالى على عمارة الزهراء أيَّما إقبال، وأنفق من أموال الدولة في تشييدها وزخرفتها ما أنفق، وهي في حقيقتها مجموعة من القصور الفاخرة، وكان يشرف بنفسه على شؤون البناء والزخرفة، حتى شغله ذلك ذات مرة عن شهود صلاة الجمعة، وكان منذر بن سعيد يتولى خطبة الجمعة والقضاء، ورأى خروجا من تبعة التقصير فيما أوجبه الله تعالى على العلماء، أن يُلقي على الخليفة الناصر درسا بليغا يحاسبه فيه على إسرافه وإنفاقه في مدينة الزهراء، ورأى أن يكون ذلك على ملأ من الناس في المسجد الجامع بالزهراء.

فلما كان يوم الجمعة اعتلى المنبر، والخليفة الناصر حاضر، والمسجد غاصٌّ بالمصلين، وابتدأ خطبته بقول الله تعالى : {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ. وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُون. وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارينَ. فاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. واتَّقُوا الذي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ بأَنْعَامٍ وَبَنِينَ. وَجَنَّاتٍ وعُيُونٍ. إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمِ عظيم}(الشعراء : 128- 135).

ثم مضى في ذمِّ الإسراف على البناء بكلام جزل بليغ، ثم قال {أَفَمَنْ أُسِّسَ بُنْيَانُهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ ورِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أُسِّسَ بُنْيَانُهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ واللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}(التوبة : 109).

وراح ينذر ويحذِّر ويحاسب حتى ادّكَر من حضر من الناس وخَشَعُوا، وأخذ الناصر من ذلك بأوفر نصيب، وقد علم أنه المقصود فبكى، وندِم على تفريطه، غير أن الخليفة لم يحتمل صَدْرُه لتلك المحاسبة العلنية، فقال شاكيا لولده الحَكَم “والله تَعَمَّدني بخِطبتهِ ومَا عَنَى بها غيري، فأسرف عليَّ، وأفرط في  تقْريعي، ثم استشاط غيظا وأراد أن يُعاقِبَهُ لذلك”.

فـــأقسم ألاَّ يُصَـلِّيَ خلفه صــلاة الجمعة، وجعل يصلي وراء أحمد بن مطرف خطيب جامع قرطبة ولكن لما رأى  ولدُه الحكَم تعلُّق والِده بالزهراء والصلاة في مسجدها العظيم، قال له : “فما الذي يمنعُك من عَزْل منذر  عن الصلاة به إذا كَرهتَه”؟

ولكن الناصر زَجَرَه وقال :

“أَمِثْلُ مُنْذر بْنِ سعيدٍ في فضله وخَيْرِهِ وعِلْمِه ـ لا أُمَّ لكَ ـ يُعْزَلُ لإرضاء نفْسٍ ناكبَةٍ عن الرُّشْدِ، سالكةٍ غَيْر القصدِ؟”

“هذا ما لا يكون، وإني لأسْتَحْيي ألاَّ أجعَلَ بيني وبينَهُ في صلاة الجمعة شفيعا(1) مِثْلَ مُنْذر في وَرَعه، وصِدْقِهِ، ولكن أحْرجَني فأقسمتُ، ولودِدتُّ أن أجدَ سبيلا إلى كفارة يميني بمُلْكي، بَلْ يُصَلّي منذر بالناس حياتَه وحياتَناـ إن شاء الله ـ فما أظُنُّ أنَّا نَعْتَاضُ منْهُ أبدا”.

ولما اشتدت الفجوة بين العالم الرباني منذر بن سعيد والخليفة عبد الرحمان الناصر نتيجة محاسبة المنذر له في إسرافه على بناء الزهراء أراد ولدُه الحكَم أن يزيل ما بينهما، فاعتذر له عند الخليفة وقال : يا أمير المؤمنين، إنه رجل صالح، وما أراد إلا خيرا، ولو رأى ما أنفقتَ، وحُسْنَ تلك البِنْية لعَذَرك، ويريد بالبنية هنا القُبَّة التي بناها الناصر بالزهراء، واتخذ قراميدها من فضة، وبعضها مُغَشًّى بالذهب، وجعل سقفَها نوعين : صفراء فاقعة، إلى بيضاء ناصعة يستَلِبُ الأبصار.

فلما قال له ولدُه ذلك، أمَرَ، فَفُرشَتْ بفرش الديباج، وجلس فيها لأهل دولته.

ثم قال لقرابته ووزرائه : “أرأَيْتُمْ أمْ سَمِعْتُم ملكا كانَ قَبْلِي صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُ”؟(2)

فقالوا :لا. والله يا أمير المؤمنين، “وَإِنَّكَ الاحَدُ في شَأْنِكَ”(3).

فبينما هم على ذلك إذ دخل مُنْذر بنُ سعيد ناكسا رأسه(4)، فلما أخذ مجلسه، قال له : مثل ما قال لقرابته ووزرائه : “أرأيت أم سمعت ملكا كان قبلي صنع مثل هذا؟”

فماذا كان رَدُّ العالم الرباني؟

- كــان رَدُّه عمليا : أن دُمُوعَه بدأت تَنحدر على لحيته لسُوء ما رأى

- وكان رده قوليا هذه الصرخة الحارَّة بالصِّدق والنصح لله ولرسوله ولخليفته وللمؤمنين :

“والله يا أمير المؤمنين ما ظننتُ أنَّ الشيطانَ يبْلُغُ منك هذا المبلَغَ، ولا أن تمكِّنَهُ من قيادَتِكَ هذا التمكُّن، معَ ما آتَاكَ اللَّهُ تعالى، وفَضَّلَكَ بِهِ على المسلمين حَتَّى يُنْزِلَكَ مَناَزِلَ الكافِرينَ”

فاقشعر الخليفة من قوله، وقال له :

انظر ما تقول، كيف أنزلني الله منازلَهُمْ؟

فقال : نعم

أليس الله تعالى يقول : {ولَوْلاَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واَحِدَةً(5) لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بالرَّحمان لِبُيُوتِهمْ سُقُفا مِّنْ فِضَّةٍ ومعاَرِجَ عليْهَا يَظْهَرُونَ}(الزخرف : 33).

فوجِمَ الخليفة، ونكَّس رأسه مليا، وجعلتْ دموعه تنحدر على لحيته، ثم أقبل على المنذر، وقال له : “جَزاكَ اللَّهُ خَيْرا، وعَنِ الدِّين خيرا، فالذي قُلْتَ هُوَ الحَقُّ”

ثم قام من مجلسه، وأمر بنقض سقف القبة (6).

إن الخليفة عبد الرحمان الناصر هو أعظم خليفة أموي بالأندلس، فقد وصلت الدولة الأموية في عهده هناك إلى أوج ازدهارها، وكانت ملوك النصارى تأتيه من أغلب دول أوروبا متوددة له نظرا لجهاده وجده في الفتح، وهو أول من سمى نفسه خليفة بالأندلس بعدما سمَّى الفاطميون أنفسهم خلفاء، وكان للمسلمين خليفة واحد، وقد بنى  مدينة الزهراء، وشيد بها قصره ليكون عنوان عظمته، ولكن التفكير في جعل العظمة تقاس بالقصور والأطيان، وليس بالتفكير في جعل الدولة دولة الدعوة، فيُنظم اقتصادها وجيشها، وإدارتها، وسياستها، واختيار رجالاتها وقضاتها وولاتها وولاة العهد، وقواد الجيش، واختيار نساء القصر، والندماء ومراكز العلم والبحث، والدعوة على أساس إعلاء كلمة الله تعالى فقط.. إلى غير ذلك من مراكز قوة دولة الدعوة عدمُ التفكير في جَعْلِ الدَّولة دولةَ الدعوة هو أساس الهبوط.

التفكيرُ الطيني الذي غلب التفكير الديني هو الذي جَعَل الناصر آخر الخلفاء العظام بالأندلس، وبعده بدأت شمس الأندلس تغرب.

هذا هو الخليفة الأندلسي العظيم الذي قيل عنه إنه كلما شعر بسرور يوم كان يَرْمُز له بعَقْد صُرَّة، فعندما مات وجدت عنده ست عشرة صُرَّة، أي لم تصْفُ له في حياة الملْك العريضة إلا ستة عشر يوما.

أما عظمة العالم الرباني وهَيْبَتُه في النفوس فتتجلى في صفاته التي كان يتحلى بها، وعلى رأسها :

1- قوة العلم بالله تعالى ، منه تعالى  استمدَّ القوة فأصبح لا يخشى في الله لومة لائم

2- قوة العلم بالشرع، فقد كان في درجة المجتهدين  المفتين

3- قوة العلم بالمنهج الاسلامي الهادف إلى السمو بالانسان لكي يرتفع إلى ما فوق التراب والطين، والتشوق إلى النعيم يوم الدين.

4- قوة الجرأة في الحق بالحق لعلمه أن الإنسان أضعفُ ما يكون حينما تسقط همته وتهون

5- قوة اللجم لهوى نفسه حتى أصبح من الورعين الذين يهَابُهم أربابُ الدنيا المتلهُّون ببهرجها وزخرفها امتصاصا وتعصيرا لدَرِّها، وامتشاشا لعَظْمها، طمعا في السعادة وهم في طريق الشقاوة سائرون.

أمثال منذر بن سعيد المرابطون في محاريب العلم والدعوة وتصحيح الانزلاقات التي تطيح بالكبار هم الذين تحتاج إليهم الدعوة، وبالأخص في عصرنا هذا الذي اشتبه فيه الخيط الأبيض بالأسود، فأصبح الناس لا يميزون بن الخيطين والنهجينوالسبيلَيْن والدعوتين والعِلمين، اختلط عِلْم الدنيا بعلم الآخرة، وطلب الآخرة بطلب الدنيا، واختلط الولاء لله تعالى بالولاء للأشخاص.

أمثال هؤلاء العلماء الربانيين هم الذين إذا هَبُّوا هَبَّ الناس، وإذا قالوا حَيَّ على التطهير تطهَّر الناس وتكفَّنوا لاستنشاق عبير الجنة ورُوحها وريحانها.

المفضل فلواتي رحمه الله تعالى

—-

1- إشارة إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الدارقطني والبيهقي : ((اجعلوا أئمتكم خياركم، فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم)) التاج 253/1 وربما ورد في بعض الروايات بلفظ ((شفعاءكم)).

2- هذا بدْءُ الهبوط، لأن الافتخار في الإسلام -إن صح- فهو بالعمل الصالح ونشر رسالة الهداية، وليس بالتفنن في اعلاء بنايات الطين، والتفنُّن في زخرفة ما يفني، والزهد فيما يبقى، ومن هنا كان التعارض تاماً بين منهج الخليفة وتصوّر العالم الربّاني للدنيا والدين.

3- كلمة “الأوحَد” لا تقال إلا لله تعالى، ولكن الناعتين من الأتباع وديدان الأرض يطلقونها -تملقا- على كل مسرف مطلق العنان للهوى، وقد عانى المسلمون ومازالوا، من هذا الأوحد، والأمجد، والأشرف، والأكرم، إلى أن يلطف الله بهذه الأمة فينعم عليها بربانيين.

4- تواضعاً أولا، وزهداً في المظاهر البراقة ثانيا، وكبتا للمبهورين ثالثا.

5- أمَّة واحدة : أي في الكفر، أي لولا أن يكفر الناس جميعا بسبب ميلهم إلى الدنيا، وتركهم الآخرة، لأعطيناهم في الدنيا : القصور المفضَّضة، والبيوت المذهّبة، والمصَاعِد التي يظْهرون ويصعدون عليها إظهاراً للبذخ، وافتخاراً بالمساكن والسطوح الفريدة المُبْهرة للمتهافتين على الدنيا، وهذا يدُلُّ على حقارة الدنيا عند الله إذ ((لوْ كانت الدُّنيا تعدِلُ عند الله جناح بعوضة ما سقَى كافراً منْها شرْبة ماءٍ)) كما قال صلى الله عليه وسلم.

ولكن الله عز وجل لحكمته جعل الدنيا ابتلاء للمومن والكافر ليبلوهما أيهما أحْسَنُ عملا، وبعث الرسل وأنزل الكتب لإرشاد الإنسان إلى الأصـلح والأبْقَى، وصدق الشاعر :

فلوْ كانتِ الدنيا جزاءً لمُحْسن

إذاً لمْ يكُنْ فيها معاشٌ لظالِمْ

لقد جاع فيها الأنبياء كرَامَةً

وقد شَبِعَتْ فيها البَهَائِم

الجامع للأحكام 69/16.

6- أنظر : مقال بين خليفة وقاض مجلة الأزهر رمضان 1371، وانظر الإسلام بين العلماء والحكام 93. وانظر المبتكرات في الخطب والمحاضرات 188.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>