مدخل:
قال الله عز وجل : {وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُم أُمَّةً وَسَطا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهيداً}(البقرة : 192). إن الآية تدل على أن الأمة الإسلامية تقوم مقام الرسول في الشهادة على الناس، لأنه يستحيل عقلا وشرعا أن يترك الله عز وجل البشر هَمَلاً بدون نذير لتقوم الحجة عليهم يوم الفصل العادِلِ، جاء في صحيح مسلم أن النبي قال حين مَرَّتْ به جنازة، فأُثْنِيَ عليها خيرا، فقال: “وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ” ثم مُرَّ بأخرى فأُثْني عليها شرّا فقال : “وَجبَتْ، وجبَتْ، وَجبَتْ” فقال عمر: فِدًى لك أبي وأمي مُرَّ بجنازة فأُثني عليها خيرا فقلت : وجبت، وجبت، وجبت، ومُرَّ بجنازة فأثني عليها شرا، فقلت : وجبت، وجبت، وجبت، فقال رسول الله : “مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرا وَجَبَتْ لَهُ الجنَّةُ، وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرّاً وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَداءُ اللهِ في الْأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ في الْأَرْضِ” أخرجه البخاري أيضا بمعناه(1)
وقال : “مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أمْ آخِرُهُ” الترمذي والحاكم(2) وقال :”إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ علَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا”(3)
ولا تكون الشهادة كاملة حتى يوُجَدَ فيها من يفقه الدينَ المبعوثَ به خاتم الأنبياء، فقها شرعيا، ومقاصديا، وأخلاقيا، وعمَلِيّا كما فقهَتْه الأمة الخيّرة الشاهدة المُخْرجَة من الله عز وجل على يد الرسول ، ولا يمكن أن تكون كذلك إلا إذا وُجد دعاة ربَّانيُّون يجددون حلاوة الدين في النفوس، وحلاوة الانتماء إليه، وحلاوة الاعتزاز به، وحلاوة الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة أحيانا، وبالثبات عليه والصمود في وجه المُعَوقات والمثبِّطات أحيانا، وبالاستشهاد في سبيله أحيانا إن لم يكن بُدٌّ من إعطاء الدَّم فداءً وثمنا للصمود في وجه الطغيان المتسلط، فتلك ضريبة دموية سنّتْها سُمية بنت خياط ]، وتبعها في الطريق زوجها ياسر ] تحقيقا لسنة الله تعالى التي لا تتخلف {وَيتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ}(آل عمران : 139)
ظروف استشهاد المفسر الشهيد
والمفسر الشهيد خَيْرُ خلف لخير سلف مَرَّ على الأمة طَوال تاريخها المليئ بالمجددين والعلماء الربانيين المجاهدين بالنفس والنفيس في سبيل خلود هذا الدين، وخلود الأمة الشاهدة.
وليس غرضنا التكلم عن حياة المفسر الشهيد، فذلك مما تكفلت به كتب مختصة، إنما نريد إلمامة فقط بالظروف التي قادته إلى ساحة الشهادة.
لقد كان الرجل معروفا في الأوساط الأدبية والفكرية والتنظيرية والسياسية كزملائه من الكتاب الذين سبقوه، العقاد، والرافعي، ورشيد رضا، والكواكبي وغيرهم، إلا أنه بَرَزَ أكثر فأكثر عندما أرادت الثورة الاتِّكاء عليه، حيث كان رجالها يعتبرونه “مِيرَابُو الثَّوْرَةِ العربيَّة” أو “الأَب الرُّوحي لهَا”(4) إلى درجة أن أعَدُّوا حفلا لتكريم سيد قطب، الذي وقف يخطب فيه قائلا : “لقد كنتُ في العهد السابق مهيئا نفسي للسجن في كل لحظة، وما آمن على نفسي في هذا العهد أيضا، فَأَنَا في هذا العَهْدِ مُهَيِّئٌ نَفْسِي للسجن، ولِغَيْرِ السِّجْنِ، أَكْثَرَ مِنْ ذِي قَبْلُ”(5).
وهنا وقف زعيم الثورة وقال بصوته الجهوري :
“أَخِي الكَبِير سَيّد، واللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكِ إِلاَّعَلَى أَجْسَادِنَا، جُثَثاً هَامِدَةً، وَنُعَاهِدُكَ باسم اللَّهِ، بَلْ نُجَدِّدُ عَهْدَنَا لك، أن نَكُونَ فِدَاءَكَ حَتَّى المَوْتِ”؟
والعجيب أنهم ـ أي المجهولون ـ لم يصلوا إليه، ولكن وصل إليه الزعيم الذي عاهده، فحكم عليه، وأعْدَمه، بعد أربعة عشر عامًا كاملة من تاريخ الكلمة الوَعْد الأولى، حيث أراد منه أن يكون بوقا للسياسة الهوائية المعادية للدين، وأراد هو لنفسه أن يكون صوتا مجلجلا بالدعوة للدين، فَزُجَّ به في السجون والزنازن والمعتقلات، ولم تشفع فيه الأيادي الفكرية التي أضاء بها الطريق للمصلحين لوعقلوا، كما لم تشفع فيه شفاعة الشافعين من مختلف زعماء العالم الإسلامي وقادته. وعَرَف الرجل أن رأسه في الأخير هو المطلوب، فقبل وفاته قال:
“لقد عَرَفتُ أن الحكومة تريد رأسي هذه المرة، فلستُ نادما لذلك، ولا متأسفا لوفاتي، وإنما أنا سعيد للموت في سبيل دعوتي، وسيقرر المؤرخون في المستقبل من كان على الحق”(6).
وقال في تقريره الذي قدمه للمحكمة :
“إِنَّهُ آنَ أَنْ يُقَدِّمَ إنسَانٌ مُسْلِمٌ رَأْسَهُ ثمنا لإعْلاَنِ وُجُودِ دَعْوَةٍ إسْلاَمِيَّةٍ”(7).
وقال في رسالتين أرسل بهما من خلف الأسوار الغليظة، قال في الأولى :
“أما أنا فأجدني خيرا من أي وقت مضى، في عقيدتي، وإيماني، وفي وضوح هذه العقيدة وهذا الإيمان في نفسي، وفي وضوح إدراكي وتصوري لهذا الأمر ومقتضياته، ووضوح الهدف والوسيلة والطريق والغاية، وكل هذا خير جزيل جميل، يرجح كل ما أديته ثمنا له، من صحتي وراحتي، والحمد لله”.
وقال في الثانية :
“لقد وجدت الله كما لم أجده من قبل قط، لقد عرفت منهجه وطريقه، كما لم أعرفه من قبل، ولقد اطمأننت إلى رعايته، ووثقت بوعده للمومنين، كما لم أطمئن من قبل”.
“وأنا بعد ذلك ـ على ما عهدتني ـ مرفوع الرأس، لا أحنيه إلا لله، والله يفعل ما يشاء، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون”(8).
أما عندما سمع النطق بالحكم فكان جوابه : “الحمد لله”.
وأرسلوا إليه أخته “حميدة” ليلة تنفيذ الحكم عَلَّها تؤثِّر عليه ليكتب اعترافا بذنب هو بريء منه، ثم يعقبه بطلب العفو عنه، فيجد الظالمون مسلكا يحفظ ماء وجههم، ويخرجهم من الورطة التي أوقعهم فيها صُلب الإرادة، وقوة العزيمة على إرواء الدعوة بدم الشهادة، كما أروتها سمية رضي الله عنها فتتابعت الثمار والأشجار، وبعدما ذكرها ببراءته ـ كما تعرفُه هي ـ وبعدما بَشَّرها بما رأى من بشريات الاستشهاد في سبيل الله التي رآها، واطمئنانه التام إلى مصيره في العليين، قال لها :
“إِنَّهم لاَ يَسْتَطِيعونَ لأَنْفُسِهِم ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً، إِنَّ الأَعْمَارَ بِيَدِ اللَّهِ، وهُمْ لاَ يَسْتَطِيعون التَّحَكُّم في حَيَاتِي، ولا يستطِيعُون إِطَالَةَ الأَعْمَارِ، ولاَ تَقْصيرَهَا كُلُّ ذلك بيد الله. واللَّهُ من وَرَائِهِم مُحيطٌ”(9).
يا أختاه : “لَقَدْ عَمِلْتُ خَمْسَةَ عَشَرَ عاماً لِنيْل الشَّهَادَةِ” كيف أعتذر؟ “لَنْ أَعْتَذِرَ عَنِ الْعَمَلِ مَعَ اللَّهِ”.
وكيف استرحم من لا يملك لنفسه رحمة؟ “إِنَّ إِصْبَعَ السَّبَّابَةِ التي تشهَدُ لِلَّهِ بالْوَحْدَانِيَّةِ في الصَّلاَةِ لَتَرْفُضُ أَنْ تَكْتُبَ حَرْفاً تُقِرُّ بِهِ حُكْمَ طاغِيَةٍ” ثم “لِمَاذا أَسْتَرْحِمُ؟ إِنْ سُجِنْتُ بِحَقٍّ، فَأَناَ أَقْبَلُ حُكْمَ الْحَقِّ وإنْ سُجِنْتُ بباطِلٍ فأَنَا أَكْبَرُ مِنْ أَنْ أَسْتَرْحِمَ الْبَاطِلَ؟”(10).
سأله أحد الضباط ـ وهو في قفصه أثناء المحاكمة ـ عن معنى شهيد، فقال له : معناها “أَنَّهُ يَشْهَدُ أَنَّ شَريعَةَ اللَّهِ أَغْلَى عَلَيْهِ منْ حَياتِهِ”.
وإذا كان هو -وهو الشاعر المُفلق- يقول :
عُلوٌّ في الحياة وفي المَمَات
بحَقٍّ تِلَكَ إِحْدَى المَكْرُماتِ
فقد التُقطت له صورة لحظة خروجه لإعدامه 28/8/1966 وهو يبتسم ابتسامة الانبساط والانشراح والرضا، وكأنه لم يكن ذاهبا للموت، بل ذاهب للعرس، ولقد كان كذلك فعلا، فقد قال للموظف الذي يُلقِّنُ الشهادة لكل محكوم عليه بالإعدام قبل التنفيذ، عندما قال له : “قل لاإِلَهَ إِلا َّ اللَّهُ مُحمدٌ رسُولُ اللَّهِ”.
قال له : يا هذا : أنْتُمْ تأْخُذُونَ الأَجْرَ على تلقين الشهادة. أما أنا فعِشْتُ لهَا وجِئْتُ أُؤَدِّيَ ثَمَنَهَا في هذا المَكان لآخُذَ أَجْرَها مِنْ عِندِ اللهِ الذي لا يُضيعُ أَجْرَ مَنْ أََحْسَنَ عَمَلاً، أسال الله أن يتقبل مني.
ولقد عاش رحمه الله تعالى عيشة الخلود يوم مات، كما عاشت سمية وياسر وكل شهداء الممسلمين، مصداقا لقول الله تعالى {لَقَدْ انْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}(الأنبياء 9) أي فيه كامل شرفكم، وأشرف أخلاقكم، وأسمى حضارتكم التي لا تدانيها حضارة، بشرط أن تعقلوا ذلك، وتضحوا في سبيل ذلك بالغالي والنفيس،(الجامع 11/228) فلا حياة لكلمة بدون برهان، وكأن سيد قطب كان يعزف على هذا المعنى حينما قال :
“إن أصحاب الأقلام يستطيعون أن يصنعوا شيئا كثيرا، ولكن بشرط واحد.. أن يموتوا لتعيش أفكارهم، أن يُطْعموا أفكارهم من لحومهم ودمائهم، أن يقولوا ما يعتقدون أنه حق، ويقدِّموا دماءهم فداء لكلمة الحق”.
“إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثثا هامدة، حتى إذا متنا في سبيلها وغذيناها بالدماء، انتفضت حية، وعاشت بين الأحياء”.
ولعل هذا هو السر في خلود “ظلاله” الذي طبع بالآلاف، وأخيرا صار الكتَّاب يستخرجون منه مواضيع متعددة في كتب متعددة، مثل: الابتلاء من الظلال، الغزوات من الظلال، نظام الأسرة من الظلال… وهكذا،… فرحم الله المفسر الشهيد وتقبل منه.
——
1- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.
2- التاج الجامع للأصول من حديث الرسول لمنصور علي ناصف : 428/3.
3- نفسه.
4- سكب العبرات 444/1.
5- سكب العبرات لسيد بن حسين العفاني 444/1.
6- سكب العبرات لسيد بن حسين العفاني 444/1.
7- لماذا أعدموني لسيد قطب.
8- سكب العبرات 445.
9- أيام من حياتي لزينب الغزالي 183، وسكب العبرات.
10- سكب العبرات 446.
ذ. المفضل فلواتي رحمه الله تعالى