خرج ملك البرتغال “سبستيان” بمائة وعشرين ألفَ مقاتل لتعميم المسيحية في إفريقيا كلها، مدعوما من البابا وجميع ملوك وزعماء المسيحية، لكن المغرب هو بوابة إفريقيا، فكان لا بد من فتح هذا الباب أولا، وبعد ذلك فالطريق مُعَبَّد.
والذي شجعه على تحقيق هذا الأمل الملك المخلوع محمد المتوكل الملقب ب “المسلوخ” فهو الذي ذهب إلى سبستيان واستنجد به على عَمَّيه : عبد الملك السعدي وأخيه المنصور الذهبي السعدي.
تعَبَّأ المغاربة بقيادة عبد الملك السعدي حتى اجتمع أربعون ألف مجاهد ما بين جنود ومتطوعين، وعندما عَبَر سبستيان البحر واستقر على أرض المغرب، كتب إليه عبد الملك السعدي الرسالة الأولى قائلا:
“إِنَّ سَطْوَتَكَ قَدْ ظَهَرَتْ فِي خُرُوجِكَ مِنْ أَرْضِكَ، وَجَوَازِكَ العَدْوَةَ، فَإن ثَبَتَّ إلَى أنْ نُقْدِمَ عَلَيْكَ، فَأَنْتَ نَصْرَانِيٌّ حَقِيقِيٌّ شُجَاعٌ، وَإِلاَّ فَأَنْتَ كَلْبُ بْنُ كَلْبٍ”.
وانطلتْ الحيلة على الطاغية المغرور، فثبت في مكانه حتى وصل عبد الملك إلى وادي المخازن، فكتب إليه عبد الملك الرسالة الثانية : قد قطعنا إليك ست عشرة مرحلة، فاقطع إلينا مرحلة، فتقدم المغرور حتى عَبَر جَسْرَ وادي المخازن، حيث عسكر قبالة المجاهدين من الجيش والمتطوعين. وفي جنح الظلام أمَرَ عبدُ الملك المعتصم أخاه أبا العباس أحمد المنصور بنسْف قنطرة جِسر وادي المخازن قطعا لخط الرجعة على الجيش الذي سيهزم بإذن الله تعالى، فيكون الوادي من أكْبَر جنود الله تعالى في هذه المعركة التي لها ما بعدها، حيث سيكون الوادي مانعا من الهروب إلى الأسطول الموجود بالشاطئ، ومانعا من وصول الإمداد إذا مااحتيج إليه، خطة فيغاية الدقة والإحكام.
ووقف السلطان عبد الملك المعتصم بالله خطيبا في الجيش مذكرا بوعْدِ الله تعالى للصادقين بالنصر وبالفوز، ومبصِّرا المجاهدين بخطورة الموقف، فإن الصليبية إن انتصرت اليوم ـ لا قدَّر الله ـ فلن تقوم للإسلام قائمة بعد هذه المعركة.
ورغم تدهور صحة السلطان منذ كان بالعاصمة مراكش فإنه آثر أن يقود الجيش بنفسه وهو مريض حتى وصل إلى القصر الكبير وعسكر بوادي المخازن، وعندما ابتدأت المعركة خرج بنفسه ليردَّ الهجوم الأول، منطلقا كالسَّهم شاهرا سيفه يفتح لجنده الطريق إلى صفوف البرتغاليين المعتدين. إلا أن المرض غالبه فغلبه، فعاد إلى مِحَفَّتِهِ، وما هي إلا دقائق حتى لفظ أنفاسه الأخيرة. وأطبق أجفانه وهو موقنٌ بالنصر الذي وعد الله تعالى به عباده الصادقين المومنين المجاهدين، فكان أمْرُ هذا الرجُل مِنْ أعجب العجب في الحزم والشجاعة، لقد مات وهو وَاضِعٌ سَبَّابَتَهُ عَلَى فَمِهِ مشيرا لهم أن يكتموا أمْرَ موته حتى يتمَّ النصر، وألا يضطربوا ويحدثوا أي فتنة، وكذلك كان.
فلم يطلع على وفاته إلا حاجبه “رضوان العلج” وأخوه أحمد المنصور، وصار حاجبه يقول للجند : السلطان يأمر فلانا أن يذهب إلى كذا، ويأمر فلانا أن يلزم الراية، وفلانا يتأخر… فكان الغرقى أكثر من القتلى بساحة المعركة، فسبحان الله الذي يسخر لعباده الملائكة، والبرد والرياح، والأودية لتكون جنودا لله مجندة مع المومنين المجاهدين.
ويقول طبيب عبد الملك الخاص “كان سِرُّ اللهِ عظيما، فَقَدْ هَلَكَ في ظَرْفِ ساعَة ثَلاَثَةُ ملوكٍ، كان اثنان منْهُم عظيمَيْنِ، وكانتْ المُعْجِزَةُ الكُبْرَى : في أنَّ مَلِكا مَيِّتا غَلَبَ مَلِكَ البُرْتُغالِ، حتى لَيُظَنَّ أَنَّ ذلِكَ الأَمْرَ كانَ مِنْ فِعْلِ السِّحْرِّ” إنه الإكرام الرباني لعباده الصادقين، فهم وحدهم الذين يذوقون حلاوته يوم تهب نسائم الجنة تعطر أرواح المومنين(1)
—–
1- انظر الاستقصا للناصري : 79/5- 80، ووادي المخازن لـ : د. شوقي أبو خليل 65- 66، وسكب العبرات 436/1.
ذ. المفضل فلواتي رحمه الله تعالى