أوراق شاهدة – عن سريلانكا التي في القلب سأحكي : بيوت لصناعة  “ثورات الهباء”


1-  سيـــرة الـمحبين:

كان الوقت يمضي بنا سريعا ونحن ننتقل في مروج السالكين العميقين إلى الله تعالى دون كثير بهرجة ولا تنميق قول، أو ازدهاء بعمل.

كان هؤلاء السريلانكيون الأفذاذ مولعون حقا بالتزود من حدائق الثمار النبوية الوارفة، غير آبهين بصخب العابرين العاضين على الدنيا الفانية حواليهم من البوذيين والمسيحيين.

لقد كانت حياتهم مصطبغة في أدق تفاصيلها بلون العبودية لله عز وجل على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك حين اهتزت نفسيات السريلانكيين البوذيين والهنود والمسيحيين بفقدان ذويهم وممتلكاتهم إبان موجات تسونامي التي اجتاحت سريلانكا وأفضت بهم إلى الاستغراق في ذلك الحزن والوجوم العميق الذي يلفت انتباه الغرباء من أمثالنا، فقد ظل المسلمون السريلانكيون رغم شربهم من نفس كأس البلاء متشبثين بإيمانهم القوي، صابرين راضين بالامتحان الرباني العسير، منصرفين بهمة إلى أعمالهم اليومية، ولم يكن صعبا أن تقرأ في وجوهم تلك القدرة العجيبة على الشموخ في وجه العواصف، التي يضخها الدين في نفس الإنسان. كان في وجوههم صلابة معجونة بسمو روحاني يفيض عليهم  هالة طيبوبة ووداعة آسرة، وهي الهالة التي انسابت   دافقة ونحن نعلن لمضيفاتنا عن قرب رحيلنا، وقد تبقى في أجندة زيارتنا يومان سنمضيهما في بيت آخر قبل التوجه إلى مكة المكرمة لأداء العمرة.

2-  دعاء..  دعاء..  ودائما دعاء:

كانت الأجواء في البيت ما قبل الأخير، مجللة بسحابة حزن مبين، غطت على محاولات أخواتنا السريلانكيات إسعادنا بكل ما استطعن من وسائل تكريم  حيث أشعن بين جيرانهن ومعارفهن أننا راحلات  فتوافدت النساء بكثرة وحملن معهن فيض عواطف إلى بيت مضيفينا ليقضين معنا لحظات رشف من “رحيــــق” كلامنا  للدين قبل أن نرحل عنهن، رحيقا كما اعتبرنه طيلة مقامنا معهن.

وأمام دفعات عطائهن المبهر، كان المقابل الذي يطلبنه وسعين تلك الليلة بين كل حديث وحديث إلى الإلحاح علينا لنغدق عليهن منه هو: ” الدعاء “.

شيء عجيب ولا يصدق، هذا اليقين المتين في الدعاء، والأعجب منه يقينهن أننا مستجابات الدعاء..شيء خارق هذا التطويق لنا ونحن نقدم عليهن، ثم ونحن نغادرهن لكي ندعو لهن في كل آن وحين.

كان شوقهن لمرافقتنا والسمر معنا يتلخص في اغتنام  أية فرصة لجعلنا نرفع أيدينا، ونطلب الله عز وجل ليستجيب للائحة مطالبهن التي لا تتجاوز أبدا حقل القرب من الله تعالى والفلاح في اتباع سنة رسوله الكريم هن وأبنائهن وأزواجهن.

يا ألله..! حين أذكر أسمارنا، وهذا التهالك المخجل على اللهو وآلا ته ونجومه ومهرجاناته اللامحدودة،  كأننا نملك  يقينا تذكرة ذهاب إلى الجنة بالدرجة الأولى أشعر بالبون الشاسع بين سلوكنا وسلوكهم إلى الله عز وجل!!

وحين أذكر حذقنا في التشبث بأهداب الدنيا وتنافسنا عليها حتى أهلكتنا ورمت بنا مضغة سائغة للذئاب المتربصة مصداقا لتحذير رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، أدرك كيف سرت علينا السنن الكونية القاضية بإذلالنا وتسويغنا مطية لرفس من هب ودب، ونحن لا نستحضر الربانية إلا في صلواتنا المشوهة قلبا وقالبا وطقوس أخرى جوفاء وبلا روح.

نظراتهن العطشى لكلام الله عز وجل وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، تحلقهن حولنا، خفض الجناح لنا في كل حاجياتنا..كل ذلك يذكرني بقول الشيخ المغربي الجليل الذي حدثتك عنه قارئي في الحلقات الماضية :

(عندما ننفق الطاقات التي لدينا فيما يرضي الله عز وجل : الأولاد والأزواج والوقت والصناعة والتجارة والفلاحة وكل أصناف الكسب تتغير حياتنا وتأتي فينا صفات الصحابة رضي الله عنهم، صفات الطاعة  والمحبة، وتصبح حياتنا هي الحياة المرضية، حياة الرسول صلى الله عليه وسلم)..

حين أذكر ليلى الطرابلسي الجشعة أو زوجها “الفهمان بعد فوات الأوان”  أو “جنرال جنرالات النياشين” حسني مبارك وكل حاشيته، وكل تلك الدهاليز أو البنوك التي احتجزوا فيها أرزاق العباد،  و بكل ذلك النهم لتكديس المال والحلي النفيسة، ثم مسحة التعاسة التي صفدت وجوههم عند الرحيل بعيدا عن كراسي الحكم بما لم ينزل الله،  أفهم السر في تلك النورانية التي تجلل وجوه أخواتنا السريلانكيات وهن بلا مال ولا جاه  في بيوت جد بسيطة ويحسبها الناظر إليهن قصورا، إذ يملأنها بالذكر والشكر لله عز وجل عبادة ومعاملات.

وبعيدا عنهن حين أذكر كل عطش الشباب المتظاهرين بساحات “التحرير” على امتداد العالم العربي  هذه الأيام، وهم يطالبون بإسقاط وجوه الفساد وإحلال وجوه ” الصالحين” عوضها أشفق على كم العرق والدماء التي تهدر عبثا من طرف محتجين ينأون عن الطريق الرئيسية إلى السعادة، طريق الله عز وجل ويتخذون طرقا ثانوية أشبه بالمتاهات المتشعبة التي لا تفضي إلا إلى المزيد من الأحزان ومراكمة الجثث والأكفان، لأن الظلم لا وطن له وهو كالعشب الضار ينبت أينما تعملق حب الدنيا والعزوف عن الجهد للدين، وبالتالي إذا رحل مبارك أو شين العابدين أو القذافي نبتت على آثارهم من بين منتخبي الشعب وبكل ديمقراطية  أعشاب الظلم من جديد، وإن برتوش حداثية،  طالما ظلت القلوب بعيدة عن مصدر قوتها وعزتها وإن تعمدت بالشعارات تشي غيفارية الأكثر ثورية، وولجت المتاهات الأكثر وعدا بالسعادة.

متاهات اسمها الحق في الديمقراطية، والحق في السكن، والحق في العمل، والحق في الحرية، والحق في الصحة إلخ .. وقد انتحر مشاهير وأثرياء امتلكوا كل هذه المرغوبات وظلوا تائهين بعيدا عن مالك هذه المرغوبات الذي بيده الخير كله حتى أفضى بهم التيه إلى الموت الحرام.

مرغوبات قال في سمومها المغلفة بعسل النعمة الفاتنة المولى سبحانه: {قل ان كان آباؤكم  وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى ياتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين}.

3- بلطجـة وبلطجـة فـي غياب حـلقات التعـليـم:

وبالعودة إلى أخواتنا السريلانكيات فإن سعيهن لجعل حياتهن مماثلة ما أمكن لحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعهن لإ حاطتنا بسياج من الرعاية والمحبة لحثنا على المزيد من التنزيل لما في جعبتنا من كلام حول الدين وحول سيرة المصطفى، وقد تجلى هذا الحدب أكثر وهن يجهزن المائدة للعشاء فقد حرصن على تزيينها بلفيف من المأكولات في مصدرها الوحيد الأرز لإكرامنا.

ونحن ننهي وجبة راقية للعشاء لا في نوعية مأكولاتها بل في جودة القلوب الهادرة محبة التي أعدتها، انحنت أخت منهن على معصمي بكل حب ووضعت حوله  سلسلة فضية ألحت أمام رفضي على أن أقبلها عربون محبة ووفاء.

ولأنهن شغوفات بخير القرون وسيده المجتبى  كـما فصلنا في ذلك، فلحظات قليلة بعد العشاء انخرطن في قراءة أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكانت بحق حلقة تعليم بكل طقوس الخشوع فيها، كأنهن لم يكن قبل قليل يدردشن ويخضن في شؤونهن النسائية وهن على مائدة العشاء.

ومرة أخرى أذكر كيف أنتجت بعض بيوتنا شبابا تحرريا حد رفض كل معتقد ديني كما حدث في بعض من تجليات تعابير شباب ميادين التحرير الذين رفعوا يافطة فصل الدين عن الدولة  والتنزيل العاجل للعلمانية.

وأذكر بيوتا أخرى  تفرض حالة طوارئ قصوى لدى قيام مباراة في كرة القدم، فلا حركة ولا سكون حتى تضع حرب الأقدام أوزارها، وما يقع في هذه الأيام من حرب كلامية بين الإخوة الأعداء مواكبة لتنظيم مباراة المغرب والجزائر يدفع المرء إلى الإحساس بالخوف على مصير شباب الأمة المدفوعة إلى هذه الفتن المتلاحقة.

ولا عجب في السياق  إن رأينا ممتلكات عامة تنهب وتتلف، وشوارع تكسر إنارتها وتقلع لافتاتها ويسجل الحادث ضد من أسماهم قاموس الثورات بالبلطجية، ويشخص الداء على أنه خصاص في الخبز والمسكن والتطبيب  والديمقراطية، ولم يقل أحد كما أسلفنا بأنه خصاص في استيعاب خارطة الطريق التي تسطر في بنودها  النبوية الشريفة شروط القومة على المظالم  وحق الطريق والممتلكات والأرواح إبان هذه “القومات الملغومة”.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا يحل لمسلم أن يروع مسلما))(رواه أحمد).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى يدعها وإن كان أخاه لأبيه وأمه))(رواه مسلم).

وهي البنود التي تسري في عروق الطفل بالخلية الأولى من خلال حلقة التعليم التي يقيمها الأبوان مع أبنائهم ويقرؤون فيها سورا قرآنية و أحاديث شريفة كتلك التي ذكرنا،..

وحين أذكر بيوتنا وحرص الكثيرين فينا على جعل ” الصالونات”  كالمنطقة الخضراء بالعراق لا يقربها إلا الخواص، فهي أشبه بفسحات حداد مستديم لا يقطعه إلا الضيوف العابرون في حين يزين السريلانكيون بيوتهم لذكر الله وسنة رسوله، ينتابني الإحساس بأن أمن أمتنا  وسلاحها الأنجع للتغلب على مؤامرات حكومة العالم  الخفية لتفتيت الجسم العربي ينطلق من بيوتنا ومن حلقات التعليم التي يحتفي بها السريلانكيون أيما احتفاء، فكان من نتائج هذا التعظيم، صمودهم وهم القلة في محيطات من المعتقدات الشركية  تمتد على طول وعرض الجزيرة السريلانكية.إذ أطعمهم الله من جوع آمنهم من خوف.

وحين سننتقل إلى البيت الأخير في جولتنا هذه السريلانكية الخالدة سترون معي إخوتي القراء كيف يتشبث السريلانكيون المسلمون بدينهم حقا، فنصرهم الله  في موطن قلة و ذلة في الوقت الذي يذلنا فيه الله في موطن قوة وعزة.  ولله الأمر من قبل ومن بعد.

ذة. فوزية حجبي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>