دوام التربية النبوية للأمة الإسلامية


إنّ المعيار الحقيقي الذي يُقاس به مستوى الشخص في الدنيا هو ما خَلََّفَهُُ ذلك الشخص من آثار -سواء كانت فكرية أو مادية-، ومدى قوة تأثيرها على غيره من النّاس حيث لا يَفْتُرُ ذِكْرُه على ألسنتهم، و لا تَغيب ذِكْرَاهُ عن فكرهم، وإذا ما احتكمنا إلى هذا المعيار سنجد أن محمداً صلى الله عليه وسلم ظل موجوداً بين الناس باستمرار، خاصة أن سيرته الذاتية وأقواله وأفعاله المرويّة موجودة بكاملها بين أيديهم.

وبما أن مهمة الإنسان الوجودية تتمثل في عبادة الله تعالى وإعمار الأرض بالخير والعدل والرحمة؛ فإن الله سبحانه أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم ليربي المسلمين حتى يكونوا صالحين للقيام بدورهم الاستخلافي بالشكل المطلوب الذي يليق بمكانتهم. وعملية التربية و التزكية من الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة الإسلامية لم تكن محصورة فقط  في مرحلة البعثة النبوية؛ بل هته المهمة مستمرة ودائمة ما بقي على الأرض المؤمنون بهذا الدين وصدق الله العظيم حينما قال في كلامه القديم الذي يُقصد به كلُ إنسان مهما تغير الزمان أو تعدد المكان: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُومِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِن انْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}(آل عمران : 164)؛ قال الشيخ الطاهر بن عاشور في ختام تفسير هته الآية الكريمة:” ويجوز أن يشمل قوله (على المؤمنين) المؤمنين في كل العصور ويراد بكونه من أنفسهم أنه من نوع البشر، ويُرَاد بإسناد تعليم الكتاب والحكمة إليه ما يجمع بين الإسناد الحقيقي والمجازي، لأن تعليم ذلك متلقى منه مباشرة أو بالواسطة”(1).

والأسس الموضوعية التي جعلت التربية النبوية متحققة للأمة الإسلامية على الدوام هي:

1) حفظ السنة النبوية:  كلمة “السُّنَّة” في اللغة ترجع إلى معنى الاستمرار والتوالي والتكرار(2)، وبهذا المعنى وردت في  كثير من النصوص الشرعية، لذلك اختار بعض المحدثين والأصوليين المتقدمين تعريفها بأنها : “ما رسم ليحتذى به”(3)، فيخرج من هذا تعريف السنة بأنها ما نُقِلَ عن الرسول صلى الله عليه وسلم من التصرفات البشرية  الجبلية  أو غيرها مما لم يُقصد به التأسي والاقتداء لأنه ليس بوحي(4).

وقد حفظ الله تعالى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من النسيان و التحريف الكلي الذي يطمس معالمها؛ لأنها تبين القرآن الكريم وتُجسده عمليا، وتُظهر إمكانية تطبيقه وحدود تأويله من غير إفراط ولا تفريط، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(النحل : 44)، وعن أمِّنَا عائشة رضي الله عنها قالت:”كان خلقه القران”.

وتظهر العناية الإلهية بالسنة النبوية الشريفة من خلال تسخيره سبحانه لعلماء جهابذة أعلام تحققت بهم عصمة الشريعة من خلال جهادهم في الحفاظ عليها وابتكارهم منهجا فريدا في توثيقها ونقلها، حيث ازدانت تلك السّنن المروية بأن وصلتنا بطريقة علمية اختصت بها الأمة الإسلامية؛ فقد نُقلت من الرجل المشهود له بالعَدالة والتقوى وبالضبط في الحِفظ؛ إلى الذي يحمل مثل صفاته بشكل مُتسلسل دون انقطاع إلى أن جُمعت تلك الأخبار النّبوية  في كتب اشتهرت بين الناس على رأسها الكتب التسعة(5)؛  لذا فإنّ الناظر في كتب الحديث يطمئن قلبه في نسبة الأحاديث إلى صاحبها صلى الله عليه وسلم؛ خاصة بعد النظر في المنهج العلمي الرصين الذي كان من المحدثين الذين اعتبروا علم الإسناد من الدين.

وأُذكِّرُ في هذا المقام  بشيء يَنْْعَمُ به المسلمون وحدهم دون غيرهم؛ ألا وهو وجود الروضة الشريفة بين أيديهم مما يُدلّل على مدى تكريم الله سبحانه لنبيهم صلى الله عليه وسلم، فهم يُُمَتِّعون فيها أنظارهم وتشتاق إلى الوقوف أمامها قلوبهم، و هذا مما لم يتسنّ لغيرهم ممن لا ينتمي لدينهم؛ بل هذا الأمر هو الذي يغيض أعداءهم و يحزُّ في نفوسهم؛ إذ لا نبي ولا رسول إلا حرِّفَت رسالته وبُدِّل كتابه و أُبهم قبره عدا رسولنا صلى الله عليه وسلم.

2) شمول السنة النبوية: السنة النبوية الشريفة شاملة لجميع التصرفات والمراحل والأحوال التي يمكن أن يوجد عليها الإنسان، من (فقر أو غنى، فرح أو حزن، قوة أو ضعف، صحة أو مرض، خوف أو أمن، فراغ أو انشغال،(….))، و تشمل أيضا جميع الأدوار والمناصب(6) التي يمكن أن يُمارسها الناس بشكل عام، فقد كان عليه السلام إماما ومفتيا وقاضيا وقائدا عسكريا ، وكان تاجرا وزوجا وأبا {وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً}(الأحزاب : 46)(…). كما أن مواضيع السنة الشريفة تغطي جميع المجالات التي تؤطر حياة الإنسان من عقائد وعبادات و معاملات و أخلاق وغيرها.

ويكفي الواحد منا أن يُلقي نظرة في فهرست أحد كتب الحديث النبوي الشريف ليرى الأبواب الجامعة لجميع أحوال الناس المتوقعة، وصدق سلمان الفارسي رضي الله عنه حينما رَدَّّ على بعض المشركين المستهزئين حينما قالوا له : إن صاحبكم يُعَلِّمُكُم حتى الخراءة، فقال رضي الله عنه وأرضاه : “أجل، أمرنا أن لا نستقبل القبلة ولا نستنجي بأيماننا ولا نكتفي بدون ثلاثة أحجار ليس فيها رجيعٌ ولا عظم”(7).

وعليه؛ فإن هذين الأساسين هما اللذان حفظ الله بهما أصول ومنابع التربية النبوية، وضمن بهما دوامها للأمة الإسلامية، لكن ماهي السبل الإجرائية العملية التي من خلالها تتحقق التربية النبوية للمسلم والمسلمة في حياتنا المعاصرة؟

——–

1- يُنظر “التحرير والتنوير”  ج:  4  ، ص:  160.

2- يُنظر “معجم مقاييس اللغة” لابن فارس (13/61)، و”لسان العرب” لابن منظور( مادة سنن).

3- ينظر ” الفقيه والمتفقه” للخطيب البغدادي(ج:1/ص:86)، و “إحكام الفصول في أحكام الأصول” للباجي (ص : 173).

4- تنبيه : لا يقتصر لفظ” السنة” في هذا السياق على ما نُقِلَ عن الرسول صلى الله عليه وسلم ويُراد به الندب فقط كما هو اصطلاح الفقهاء؛ بل يشمل كذلك ما يُراد منه الوجوب، قال فخر الدين الرازي في “المحصول”  :” لفظ (سنة) لا يختص بالمندوب؛ بل يتناول كل ما علم وجوبه أو ندبيته بأمر النبي صلى الله عليه وسلم و بإدامته فعله، لأن السنة مأخوذة من الإدامة” (ج:1/ص:21).

5- هي:( صحيح البخاري؛ صحيح مسلم؛ سنن الترمذي؛ سنن النسائي؛ سنن أبي داود؛ سنن ابن ماجه؛ مسند الإمام أحمد؛ موطأ الإمام مالك؛ سنن الدارمي)

6- تجدر الإشارة إلى أن علماء أصول الفقه قد أبدعوا  في تحديد و تصنيف التصرفات النبوية، كالشيخ الطاهر بن عاشور الذي عد من أحوالها” اثني عشر حالا وهي: التشريع، الفتوى، و القضاء، والإمارة، والهدي، والصلح، والإشارة على المستشير، والنصيحة، وتكميل النفوس، وتعليم الحقائق العالية، والتأديب والتجرد عن الإرشاد”. يُنظر” مقاصد الشريعة الإسلامية”( ص : 28-29).

7- أخرجه ابن أبي شينة في مصنفه، وابن ماجة في سننه.

ذ. طارق زوكاغ

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>