لقد أبرأت ذمتك يا شعب الكنانة الأصيل


يا شعب مصر الكنانة ما أعظمك! وما أنفس معدنك! أي سر دفين ذاك الذي كنت تختزنه في أعماق كيانك لعهود متطاولة! غشيتها سحب حالكة السواد، بعضها فوق بعض؟! وغص فضاؤها الرحيب بنعيق الغربان وفحيح الأفاعي وعواء الذئاب، وانتشرت بأفيائها روائح تخنق الأنفاس وتزكم الأنوف،أم أي بركان كان يكتم أنفاسه بذلك الشكل المحير الغريب! حتى ألقى بحممه اللاهبة في لحظة نورانية باركتها ملائكة السماء! وراح يجرف إلى هاوية الخزي والبوار، خشبا مسندة وأعجازا خاوية، أرادت وأراد لها مردة الشياطين أن تظهر للناس في صورة العمالقة والأبطال! ومن سخرية الأقدار، أنها مارست لعبة السحر والتخييل الماكرة التي انطلت على الكثيرين، وركبت آلة القهر والتنكيل التي كبلت شرفاء القرى وآساد الشرى بألف قيد وقيد. لقد كانت لحظة فارقة يا شعب الكنانة! تلك التي قبست فيها الشعلة المقدسة من نجباء الزيتونة والقيروان، وأوقدت بها  فتيل البركان العظيم الذي انتشرت شعبه وشرايينه طولا وعرضا في أرض مصر المعطاء، وتركزت بؤرته تحت ميدان التحرير الشهير، والذي ظن الجاهلون أنه قد خمد إلى الأبد، واستحالت حممه إلى رماد ميت، ستجرفه السيول إلى صحارى العدم والاندثار، وما دار بخلد المغفلين البلهاء، أن بركانا يتغذى على مياه النهر الخالد الذي يحفظ في صدره الكبير، وصية عمر الفاروق عليه رضوان الله جل جلاله، وعلى أعشاب طور سيناء، المشحونة بروح الغضب الخلاق وإكسير الحياة، ما كان له أن يخمد أو يغور، فينقض عهد الله بالجريان على مر الزمان.

ما أعظمك يا شعب مصر! وأنت تلبي نداء الشباب الأطهار، الذين غصت حلوقهم لفرط ما تلقت ظهورهم من سياط المذلة والعار، فصح منهم العزم على غسل العار، وتحطيم حصون الاستكبار، فجادوا بأرواحهم الأبية، وقدموا أجسادهم الغضة الطرية، قربانا في معركة المصير، ومركبا لحيازة المجد، والظفر بالنصر الكبير، وسرعان ما أسفر النزال المبارك والمخاض العسير، عن مولود فائق الحسن والجمال، يحمل في محياه الوضيء سمات النجابة والعبقرية التي تخلقت عبرآلاف السنين، في رحم التاريخ، ويقبس من أنوار الأنبياء والهداة والأولياء، ما يشكل طاقة خلاقة تصنع الأعاجيب في لجم الفراعنة الطغاة، وكنسهم مذمومين مدحورين إلى مزبلة التاريخ، يلطمون وجوههم ويندبون حظهم على رؤوس الأشهاد، وعرق الحسرة والندامة يتصبب من أجسادهم المنتنة الشوهاء.

لقد استجمعت قواك في مشهد مهيب أيها الشعب البطل المقدام، وطردت شبح الخوف المقيت إلى غير رجعة، ومشيت في عزة وثبات، وإصرار عنيد إلى تجسيد الأماني وتحقيق الأحلام، تكلؤك في ذلك عناية المنتقم الجبار، ويحدو ركبك أولو النهى والأحلام، هؤلاء الذين ظلوا طوال السنين العجاف، يغرسون الفسائل ويبذرون البذور، التي تختزن سر الحياة، وتحمل مشاعل الكرامة والنور، وكانوا على يقين، أنها ستنمو وتورق، وتشتد وتؤتي أكلها بإذن ربها ولو بعد حين.

لم يفت في عضدك ولو قيد أنملة، ما وضعه في طريقك الخونة الأوغاد، من فلول البلطجة المدججين بالغدر والأحقاد، فأطلقتها عاصفة تحطم حصون البغي وتذهب بالأوتاد، وزرعت ميدان التحرير بمشاتل التحرير والتنوير، وغسلت ربوع قاهرة المعز وما حولها من أدران المذلة والهوان، فانبثقت في جنباتها أبهى الورود والأزاهير والأقحوان، فانتشر عبقها وأريجها الفواح، وعم شذاها المكان والزمان.

لقد دحرجت يا شعب الكنانة بتصميمك وإصرارك، من كان سببا في نكباتك وأحزانك، وكنت آية في تحفز اليقظة والوعي، وتوقد الذكاء، فلم تنطل عليك خطب الوعد والوعيد، ولا البكاء والاستجداء، وسلخته شر سلخة عن كرسي الحكم المسلوب الذي غسلته من بقايا جلده بطاهر الدماء، وثأرت لإخوانك في غزة الأبية الشماء، عندما وضعت حدا للحصار الظالم الشنيع الذي أودى  بجمهرة زكية من أرواح  الشرفاء، وكبل أيدي الأسود، عن بلوغ المقصود، فوجهت بذلك سهما قاتلا لأحفاد الخنازير والقرود، فأيقنوا أن عهد الصولة والعربدة قد ولى إلى غير رجعة، فالزمان زمان ثأر وانتقام، واستعداد لساعة الالتحام، لإحقاق الحق وتحطيم الأصنام، صنما بعد صنم، حتى تخلص العبودية للواحد القهار رب الأنام، فتغشى سحائب الطمأنينة والأمان، آفاق الأمة المجيدة التي ابتعثها الواحد الديان، لتكون رحمة للناس كافة.

لقد أبطل الله على يديك يا شعب مصر الأصيل! سحر السحرة الدجالين،  وزيف الكذبة المزيفين، فتلاشت تحت أقدامك أساطير طالما انطلت على المغفلين، وتلقفها عتاة المغرضين، من معسكر العلوج، وأزلامهم التافهين، ليبرروا حربهم المسمومة الشنعاء، على أمة العرب والمسلمين، فكان أن عاد الالتحام للشعب الأمين، الذي انتصب شامخا في ميدان التحرير، تشده أواصر الدين والقربى ووحدة المصير.

كم كنتم رائعين أيها الثوار الأماجد! وأنتم تملؤون عين الشمس وتنتشرون في كل الآفاق، ترددون بصوت واحد وبإصرار عنيد، عبارات الاستنكار والتنديد، بطغمة الفجار المفسدين الذين باعوا الوطن، وتاجروا بالعرض والدين، وتطالبون ،بلا هوادة، بإنزال العقوبة بهم، وتنفيذ القصاص في حقهم، ليكونوا عبرة لمن اعتبر، فيقطع دابر المجرمين.

وكم كنتم رائعين يا شباب مصر الجميل! وأنتم تقدمون درسكم الحضاري البليغ لأهل هذه الكرة المنكوبة بتسلط المجانين، والتي تضج بالفوضى وتنوء بسائر المآسي والأخطار، فانتزعتم بحق تقدير وإعجاب من كانوا يعاملونكم بكل استخفاف واحتقار، ويزعمون لأنفسهم أحقية الزعامة بلا منازع، وكان ذلك دليلا على أن سلطان القيم الإنسانية الخالدة سلطان راسخ الأركان عميق الأغوار.

وكم كنت في غاية الروعة وفي غاية الحكمة والبهاء يا جيش العبور العظيم! وأنت تختار الانحياز لجانب الشعب المقهور، فحزت وسام الشرف الكبير، وخلدت ذكرك في وجدان شعب مصر المجيد ، والأمة جمعاء، مبرزا أصالة معدنك، وسمو رسالتك، فيالك من رقم عصي! ويا لك من فارس لا يشق له غبار! فأنت حصن الأمة الذي ترنو إليه القلوب والأبصار، وأنت الحارس الأمين لها ضد كل ماكر غدار، وأنت مرشح أن تقود كتائب المجاهدين الأشاوس الأحرار، لمسح العار وحماية الديار، من كل ظالم جبار.

د. عبد المجيد بنمسعود

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>