أ ـ أم عمار سمية بنت خياط رضي الله عنه: ((صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة))
زوج سمية يدخل التاريخ من أوسع وأشرف أبوابه:
قدِم ياسرـ والد عمارـ من اليمن مع أخويه الحارث ومالك إلى مكة ليبحثوا عن أخ لهم فقدوه منذ سنوات، فانتهى بهم المطاف إلى مكة. فبحثوا عنه فلم يجدوه، فعاد الحارثُ ومالكٌ، وبقي ياسر بمكة.
لماذا بقي ياسر بمكة؟ ظاهريا السببُ ينحصر في أن ياسر أُعجب بجو مكة، فشعر بسعادة عجيبة تشده إليها، وأَحَسَّ بنَشوة غريبة جعلته يؤثر البقاء في مكة. أما التعليل الخفي الذي لم يكن يدْريه أحد فهو أن الله عز وجل اختار له أن يكون من الأوائل الذين كَتَبوا تاريخ الإسلام الخالد بدمائهم الزكية الطاهرة، وبذلك كانت أُسْرةُ آل ياسر من أوائل الأسر التي كتبت الفصل الأول في ملحمة الصراع بين الحق والباطل، حيث عاش المسلمون مرحلة “صَبْراً آل يَاسِرْ فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الجَنَّةُ” ومرحلة {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكَاة}(النساء : 76).
وباجتياز ياسر وزوجه سمية بنت خياط هذه المرحلة بامتياز ونجاح عظيمين كَتَبَا معا لأنفسهما خلودا في الدرجات العلى لم يخطر على بالهما أبدا، ولكن الله عز وجل ادّخره لهما، كما كتبا معا للمسلمين تاريخا لم يستطع أن يكتبه لهم طاغية متغطرسٌ، ولا حاكمٌ بالجند والمال والنفاق مُتَمَتْرِس.
ياسر يتزوج من سمية بنت خياط:
كان من عادة العرب أنه إذا دخل رجل غريب إلى أي بلدة واستقر بها فلا بُدَّ له أن يُحالف سيدا من سادات القوم ليمنعه من أذى الناس، وليستطيع أن يعيش حياة هادئة مطمئنة في جواره، فحالف ياسر”أبا حُذَيْفَة بن المغيرةِ المخزومي”، فأحبه الرجل من أعماق قلبه لما رأى منه من نبيل الخصال، وكريم الفعال، ونفاسة المعدن، فأراد ابنُ المغيرة أن يتقرَّب منه أكثر، فزوَّجه مِن أَمَةٍ له تُدعى “سُمَيَّة بِنت خِياط” فأنجبت له غلاما مباركا هو “عَمَّارُ بْنُ ياَسِر” ومَرَّت الأيام، وأَعْتَقَ أبو حذيفة ياسرا ليَدخل في صف الأحرار من ربقة العبودية للإنسان، وليتهيأ للحرية التامة من ربقة العبودية للإنسان ويعلن العبودية للدَّيّان رب الإنسان والأديان.
عمَّار يدُق دار الأرقم ليدخل هو وأسرته التاريخ:
سمع عَمَّارـ وهو الشاب اللَّقِفُ الثقِفُ ـ بالدين الجديد ومبادئه فانفتح قلبه لنداء الإيمان، وذهب لدار الأرقم بن أبي الأرقم ليسمع مباشرة من نبي ورسول هذا الدين، فيرتوي من نبعه الفياض، وما إن وطئت قدماه أعتاب الدار ورأى النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه حتى كاد يطير فرحا، وتشهد شهادة الحق بقلب ملؤه السعادة والاطمئنان إلى أن هذا الدين هو الحق الكفيل بإنقاذ البشرية مما هي فيه من المتاهات والاعوجاجات على كل الأصعدة والجهات.
قريش تلبس جلود النمر للفتك بالصحب الكرام:
قال ابن اسحاق بسنده عن عبد الله بن عباسرضي الله عنه عندما سُئل: أكان المشركون يَبْلُغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يُعذَرون به في ترك دينهم؟ قال : نعم، والله إن كانوا ليَضربون أحدهم، ويجيعونه، ويعطشونه، حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من الضر الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له: اللات والعُزَّى الهك من دون الله؟ فيقول : نعم. حتى إن الجُعْل ـ الخُنْفُساء ـ ليمر بهم فيقولون : هذا إلهك من دون الله؟ فيقول : نعم. افتداء منهم مما يبلغون من جَهده.(1).
وروى أبو نعيم في الحلية : أن أول من أظهر إسلامه سبعة : رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأمُّهُ سُمَيَّةُ، وصهيب، وبلال، والمقداد. فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فألبسهم المشركون أدْراع الحديد، وصَفَّدوهم في الشمس، وما فيهم أحد إلا وقد واتاهُمْ ـ أعطاهم ـ على ما أرادوا، إلا بلالا، فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأعطوه الولدان يطوفون به في شعَاب مكة، وهو يقول : أَحَدٌ، أَحَدٌ(2).
ريح الجنة تهب على أسرة آل ياسر فتستجيب سمية أولا:
وبينما الأسرة المباركة تُعَذَّب بكامل أفرادها، حيث كان بنو مخزوم يخرجون بكل أفرادها ـ إذا حميت الظهيرة ـ يعذبونهم برمضاء مكة، فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ياسر : الدَّهر هكذا يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم ((صَبْرا آل يَاسر فَإِنَّ مَوْعِدَكُم الجنة))، وفي رواية : ((أبشروا آل ياسر فإِنَّ مَوْعدكم الجنة)) (3).
وفي رواية : عذب المشركون عمارا بالنار، فقال صلى الله عليه وسلم “يا نار كوني بردا وسلاما” على عمار كما كنت بردا وسلاما على إبراهيم. وبعد هذا الدعاء والتبشير بدأت المحنة تتحول إلى مِنحة، وتحول الضعف إلى قوة، والاستكانة إلى تحدٍّ، فَمَرَّ أبو جهل ليلتذَّ بالتنازل عن دين الله من هؤلاء الضعفاء، وإذا به يلقى التحدي الذي لم يألفه من امرأة، فلم يصبر فطعنها في قُبلها معلِّلا خِزْي فَعلته بأن سمية رضي الله عنها كانت عاشقة لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكذب السَّفيه فقد كانت فعلا عاشقة للدين الذي جاء به، كما كان زوجها وولدُها عاشقين له، وكما عشِق هذا الدين كل الصحابة وكل أ تباع محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم الدين، ولكن السفهاء لا يفقهون، وإن كانوا يظنون أنهم أعْلَمُ العالمين فهم أجهل الجاهلين.
وإذا كانت جريمة سمية رضي الله عنها عشق محمد صلى الله عليه وسلم فما بال زوجها الذي خٌنق بعدها، وما بال ابنها الذي عذب حتى أصبح يعطيهم ما يريدون، ويقول لهم ما يريدون.
فلتهنأ سمية رضي الله عنها، ويكفيها شرفا أنها أول امرأة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فُتحت لها أبواب الجنان، في ظلال رضا الرحمان، ويكفي المجرم أبا جهل خزيا وعارا أنه أهان امرأة مستضعفة أولا، ثم قتلها ثانيا، ثم كان الطَّعْن في موضع العفة والشرف ثالثا، ليعطينا المثل على أن المجرمين لا شرف لهم ولا ذمة سواء كانوا في عهد محمد صلى الله عليه وسلم أو في القرن الواحد والعشرين، فكلهم أنذال لا مروءة لهم سواء كانوا رجالا أم نساء، لا يستحيون أبدا من كشف السوآت والتفرج على العورات، ولا حول ولا قوة إلا بك يا رحمان يا رحيم(4)
—-
1- السيرة الميسرة 103. // 2- الحلية 149/1.
3- السيرة الميسرة 102 ـ طبقات ابن سعد 188. // 4- أصحاب الرسول لمحمود المصري 441/1- 444.
ذ. المفضل فلواتي رحمه الله تعالى