الـوفـاق الـكـبـيـر


لقد جاء الإسلام لكي يحقق أقصى درجات الوفاق بين الإنسان وبين العالم والكون، بما يتضمنانه من سنن ونواميس.. وذلك من خلال التوجه المشترك الذي يؤول إلى تجميع الطاقات وعدم تبعثرها.. تماما كالعدسة اللاَّمة التي تجمع الأشعة الباهتة في بؤرة واحدة وتمكنها من الإحراق!! إن هذا الوفاق هو خطوة حاسمة باتجاه التحضر أولاً، وباتجاه إغناء المعطيات الحضارية ورفدها بالمزيد من الإبداع من جهة أخرى..

والحقيقة أننا ننسى في كثير من الأحيان أن دائرة حريتنا محدودة فيما نقدمه من أفعال وما نتخذه من مواقف ونلتزمه من أهداف.. وإننا فيما وراء ذلك محكومون -لحسن الحظ- بسنن ونواميس إلهية تفوق طاقاتنا جميعا، وبدونها لا يمضي حق وعدل، ولا يستقيم نظام كوني، ولا وجود بشري، ولا تتحقق حكمة الله سبحانه من تسيير الكون والخلائق جميعا وفق طرائق محددةٍ منضبطةٍ تؤول بهم جميعا إلى الأهداف التي رسمها علم الله المطلق، ودفعتهم إليها إرادته التي لا راد لها.. وهاكم بعض الآيات التي تعرض علينا المسألة في أبعادها المتكاملة ومن زواياها المختلفة {ولله يسجد ما في السماوات وما في الارض من دابة، والملائكة، وهم لا يستكبرون}(النحل : 49) {ولله يسجد من في السماوات والارض طوعا وكرها}(الرعد : 15) {وله ما في السماوات والارض، وله الدين واصبا، أفغير الله تتقون}(النحل : 52) {تسبح له السماوات السبع والارض، ومن فيهن، وإن من شيء إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا}(الاسراء : 44) {ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض، والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب، وكثير من الناس حق عليه العذاب؟؟}(الحج : 17) {الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل، له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات اللهأولئك هم الخاسرون}(الزمر : 59- 60) {وله من في السماوات والارض كل له قانتون}(الروم : 26) {.. ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والارض ومن فيهن بل اتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون}(المؤمنون : 71)..

ولو أننا تأملنا قليلا موقفنا عبر الكون، لرأينا أننا مجبرون -بالحق والعدل والنواميس- وباعتبارنا جزءا من خليقة الله شئنا أم أبينا، في مساحات واسعةٍ حاسمةٍ من وجودنا : أننا مجبرون على ان نولد ومجبرون على أن نموت.. أننا مجبرون على أن نبعث وأن نحاسب على أعمالنا وأن نساق إلى جنة أو إلى نار وفق هذا الحساب العادل المحفزّ.. إننا مجبرون على أن ننتمي إلى هذا الإقليم أو ذاك، وإلى هذه القبيلة أو تلك الأمة، وإلى هذا الجنس أو ذاك، وإلى هذا اللون أو ذاك.. مجبرون كذلك على أن نخضع لمتطلبات حياتنا البيولوجية والحسية، وعلى أن نتقلب في تجاربنا النفسية بين الحزن والفرح والغم والانشراح والخوف والطمأنينة والتمزق والتوحد.. وفوق هذا وذاك فإننا مجبرون على حمل ملامحنا الشخصية المتفردة، وسماتنا الخاصة، وبصمات أصابعنا.. وبدون هذه الالتزامات الحتمية تتبدد الحياة وتفقد وحدتها وتماسكها ومعناها.. بدون هذا (الجبر) تضيع البشرية ويحدث التناقض في النواميس، وتختفي قيم الحق والعدل الأزلية..

لكن الله سبحانه منحنا -من جهة أخرى- مساحةً واسعةً من الحرية والاختيار لكي يميزنا عن سائر خلقه ويفضلنا على العالمين.. تلك المساحة التي تمتد -هي الأخرى- إلى آفاق بعيدةٍ : الموقف الذي نتخذه من العالم.. الأعمال والأهداف والمعطيات التي نقدمها في الحياة.. الحرية التي تقف بالإنسان والأمم والشعوب والحضـارات على مفترق طريقين : فإما أن تكون مواقفنا وأعمالنا وأهدافنا منسجمةً مع نواميس الكون وسنن الحياة، متوافقةً معها، مما يترتب عليه إنجاز حضاري أغنى، وتوحد بشري أشمل، وسعادةً نفسية أكثر عمقا، ومصير في الأرض والسماء أشد توافقا مع مهمة الوجود البشري في الأرض، وهذا ما سعت الأديان لتحقيقه في العالم، وما يسعى الإسلام، وسيظل، من أجل تحويل البشرية كلها إليه {حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}(الأنفال : 39).. وإما أن تجيء هذه المواقف والأعمال والأهداف منشقة، بالقدر الذي منحت فيه اختيارها بطبيعة الحال، عن نواميس الكون وسنن الحياة، مرتطمةً بها، الأمر الذي يترتب عليه إنجاز حضاري متفكك، وتمزق بشري شامل، وشقاء نفسي عميق، ومصير سيِّئٌ في الدنيا والآخرة، يند عن طبيعة الدور الذي بعث الإنسان إلى العالم لأدائه، ويجيء مكافئاً لعصيانه وتمرده ورفضه أداء المهمة.. وهذا ما سعت المذاهب الوضعية، وتسعى لتحقيقه في العالم وتحويل البشرية كلها إليه.

وهكذا فإن القرآن الكريم، في حكمه على أدوار الأمم والشعوب والحضارات، إنما يتخذ هذا المقياس الكوني المصيري الحاسم في تحديد مدى توافق التجربة البشرية مع النواميس أو ارتطامها، ويدعونا إلى مواقع الانسجام والتوافق، نافخاً فينا روح العمل والإبداع، مستقطبا ممارساتنا ومعطياتنا في الهدف الواحد الشامل الذي أعلنه الله سبحانه {وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون}(الذاريات : 56).. وليس مفهوم العبادة هنا مساحة ضيقة لا تتجاوز دائرة (الشعائرية) و(الاتصال الروحي بالله).. إنه تجربة حياة كاملة يتوازن فيها الأخذ والعطاء، وتغدو أشبه بالبرنامج الشامل الذي ينظم فاعليات الجماعة البشرية في الأرض، ويمنحها معنى، ويسير بها إلى هدف واضح مرسوم.. إنه يمنح التجربة الحضارية طابعها الخاص ويعطيها الدافع والمبرر، وينفخ فيها روح الإبداع والابتكار والتطور الدائم الفعال.. كما أنه يتجاوز بها السفوح الدنيا للنشاط البشري إلى القمم التي تليق بمكانة البشرية في ساحة العالم، وبهذا تسقط ابتداء كافة السلبيات التي يمكن أن تعلق بأي نشاط حضاري لا يعتمد برنامجا شاملاً، ولا يسعى إلى هدف واضح، ولا يلتزم أخلاقية الإنسان في حواره مع خالقه جل وعلا {وما خلقنا السماء والارض وما بينهما لاعبين، لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين، بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون}(الأنبياء : 16- 18).

أ. د. عماد الدين خليل

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>