افتتاحية – {وأن هذه أمتكم أمة واحدة} فلِمَ الاختلاف والتفرق..؟!!


كلما نظر المرء في حال الأمة المسلمة إلا ويرجع نظره إليه كليلا حسيرا لا يرى في خارطتها وحدة ولا اتفاقا، ويظهر له الأمس القريب حالكا مظلما والحاضر قاتما مؤلما، كان الأمس أمس استعمار وضعف وهوان ولكن بفعل إرادات وعزائم الأخيار تحول الهوان إلى بطولة وعزة وتحول الضعف إلى جهاد وقوة فأخرج الاستعمار ذليلا، وأطل على الأمة وعلى جنباتها وأرجائها شعاع الأمل في الحرية والاستقلال والكرامة، ولسوء الطالع فإن حال الاستقلال كان أسوأ من حال الاستعمار أو شبيها به، فعصا الأشقاء فوق رؤوس إخوانهم كانت أغلظ وأقسى، وبات ظلم ذوي القرابة أشد وأمضى، ومسلسل المذابح والمتابعات والمطاردات ومصادرة الٍرأي وحرية التعبير استمر بأساليب أمر وأدهى، رغم أن جميع الأحزاب والأنظمة ظل يغني بالحرية والديمقراطية كلما أصبح وأمسى، و رغمأن جماجم المقتولين وأرقام الـمُهَجَّرين والفارين كانت أكبر من أن تعد أو تحصى، وكان حظ المخلصين من أبناء الأمة المسلمة وعلمائها من هذا العذاب والتعذيب في مصر وسوريا والعراق ولبنان وغيرها أوفر وأوفى.

ولم نجد زعماء الدول والبلدان المسلمة إلا موالين لمعسكر الاشتراكية أو معسكر الليبرالية ولم يكونوا يتقنون في هذه المرحلة سوى بيع خيرات البلاد مقابل نوال الرضى، ولم يتقنوا إلا صوغ الخطب الرنانة والطنانة بعصر الحرية والقوة لكن فوق بطون يقتلها الجوع وعقول ينخرها الجهل ونفوس يكبح حركتها الخوف والترهيب، وبرعت أحزاب ما بعد الاستعمار في الكذب على الأمة والمشاركة في تزييف الوعي والكيد للأمة وخيانة مقوماتها وهويتها، واستجلاب كل فكر هجين ومحاربة كل أصيل متين، والارتهان بيد الأجنبي فلم يكن بإمكانك أن تميز بين مقر مصنع أو شركة أو حزب فالكل مستورد، وكل واحد منها إدارته ومهندسوهالحقيقيون في الخارج، أو مصنوعة على مقاس الأنظمة الحاكمة المقبولة من الخارج دون الداخل لذلك فإنك لم تكن تجد حزبا إلا وهمه الأكبر التنافس المحموم في سبيل الحصول على نصيب في دنيا المال والعقار وشراء الكراسي والذمم بالدرهم والدولار ولو جلب التعاسة والعار، ولم يكن له من وظيفة إلا تنفيذ ما وجد لأجله والحفاظ على حسن علاقته بالغرب لحفظ صورته وحفظ كرسيه من الضياع، وحمايته من فورة هوجاء للجياع!!

وبسقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفييتي وعجزه عن حماية نفسه بله حلفائه لم يعد للغرب حاجة بكثير من الأنظمة والحكومات لأنها حققت ما صنعت لأجله، وانتهى هذا الأمس القريب باستفاقة الجميع بأن واقعا آخر أصبح يفرض نفسه أكثر. لقد استفاق الجميع شعوبا ومؤسسات على هول الصدمة الجديدة أن الغرب لا يزال مصرا على ابتزاز الشعوب الضعيفة وسلبها خيراتها وتمزيق أوصالها وإهانتها الإهانة المقيتةومساومة حكامها بتسليمه مقدرات البلدان وعلمائها مقابل المحافظة على الكراسي و مناصب الحكم، وأصبح سيف الديمقراطية وحقوق الإنسان يشهر في وجه هذه الحكومات وبدأ النبش في قبور الموتى والضحايا وإخراجها وتفزيع الحكام وترهيب الحكومات بانتهاك حقوق الإنسان وفضح جرائم العهد السابق التي دُفِعوا لارتكابها حفاظا على مصلحة الغرب وخيانة للدين والبلد وغدرا بالإخوة وفتكا بالمخالفين!!

ومضى العقد الأخير من القرن العشرين على وقع رسم معالم خريطة العالم الإسلامي وبدأ الأمر بالعراق وأفغانستان ولبنان وفلسطين والسودان، وانتهى هذا العقد بتدبير سياسي عالمي استقوت فيه الولايات المتحدة على حلفائها (دول الحلف الأطلسي) وخصومها على حد سواء وأصبح واقعنا بعد شتنبر 2001 واقع التهديد بالفناء الشامل والمحو من على الخريطة والواقع ولم تكن تسمع خلال العشر سنوات السابقة إلا لغة الغزو المسلح والمحو المحقق في وحشية لم يعرف لها التاريخ نظيرا إلا في حروب الغرب على الأمم والشعوب الضعيفة فدك العراق وانتهكت حرماته وأبيدت حضارته وسلمت ثرواته للغزاة وانتهى عصر صدام دون أن ينتهي عصر الديكتاتورية والصِّدام، وهزمت طالبان والقاعدة في أول أمرها وقتل الأفغان وجوعوا وجرجروا بالسلاسل والأغلال في سبيل القضاء على الإرهاب وما زاد الإرهاب إلا انتشارا لأن عوامله لا تزال موجودة ما وجد الاحتلال والغصب والظلم والإرهاب الدولي الأكبر.

ولم يكد العقد الأول ينتهي حتى ظهرت للغرب سوأته وانكشف تحيزه للكيان الصهيوني في المحرقة التي ارتكبها في غزة الأبية وانكشفت هزيمته لمن لم يكن موقنا بها في العراق وأفغانستان.

لكن متى يلتئم المسلمون ويأتلفوا في وحدة تجمع  كلمتهم وتنقذهم من ذل التبعية وهوانهم على عدوهم، فهزيمة الغرب لا تثنيه اليوم عن المضي في تدبير مسلسلات التدمير والتمزيق والتفرقة!!؟

وهاهو الغرب الذي يرفع رايات حقوق الإنسان والحريات العامة يسقطها بيده وهو يبارك تزوير الانتخابات التي يمكن أن يفوز فيها الإسلاميون ويغض الطرف عن استدامة حكم الحكام الذين يعتبرهم أصدقاءه وحلفاءه ولم يجد أحسن منهم في رعاية مصالحه!!

وهاهو الغرب الذي يدعو إلى محاربة الأنظمة العسكرية وعدم الاعتراف بشرعيتها يتخذها صديقا له في سبيل التمكين لمصالحه والقضاء على من يعتبرهم خصومه الحقيقيين وخاصة الإسلاميين ويسكت عن جرائم الكيان الصهيوني وتهديده النووي في المنطقة.

لقد طالت نكبات هذه الأمة وليس أمسها أشد حلكة وظلمة من يومها ولكنها مرحلة المخاض ولابد في المخاض من عسر وآلام، ولكن على الأمة أن تتعلم من أخطائها التي أوقعتها في يد أعدائها وليس أقسى على هذه الأمة من داء الفرقة وآلام الاختصام والاحتراب بين الإخوة: {وأطيعوا الله ورسوله، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}(الأنفال :46)،وعلى المسلمين اليوم أن يعودو فورا ويستجيبوا لله عز وجل حين يدعوهم قائلا : {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا}(آل عمران : 103).

وليس أفتك بهذه الأمة ـ العتيدة بتاريخها وأمجادها، القوية بخيراتها ورجالاتها، والمبشرة من ربها ورسولها بالخيرية والشهادة على العالمين ـ من الركون إلى الذين ظلموا، ولم يكن نهي الله جل وعلا عن هذا الركون خاليا من الحكمة حين قال تعالى : {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار}(هود : 113).

فهذه أمتكم أمة الإسلام ولزوم وحدتها فيها أقوم وأهدى،  والعواصم من الفتن والقواصم فيها أحوط وأنجى لو وجد من يتمسك بالعروة الوثقى كتاب الله وسنة رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم

قال تعالى: {وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون}(الأنبياء: 93) وفي آية أخرى ختم بالأمر بالتقوى {وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون}(المؤمنون:52) للتنبيه أن تحقيقوحدة الأمة قرين بالتوحد على عبادة الله وحده واتباع شرعه والائتلاف مع جماعة المؤمنين وقرين بالحرص على تقواه ومخافته تعالى وحفظ بيضة الأمة، ولا تحفظ هذه البيضة إلا إذا استجاب المسلمون لنداء الرحمان حين نهاهم قائلا لهم : {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعدما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم}(آل عمران 105)، وقرين أيضا بالتحقق والتخلق بأوصاف الأمة الجسد التي يعتبر أفرادها في علاقاتهم وتوادهم وتراحمهم ((كالبنيان يشد بعضه بعضا)) و((كالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) وإلى متى سيدوم هذا الُخلف والتفرق؟! ألم يقل الشاعر أحمد شوقي في بداية القرن الماضي:

إلام الخلف بينكم إلام          وهذي الضجة الكبرى علام؟!!

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>