ألم قلم – الحاج والحاجة


عودة الحجاج الكرام من أداء مناسكهم فرصة للحديث عن رحلتهم وعن المناسك المفروضة المباركة التي أدوها وكيف أدوها، وعما قضوه من أيام لا كسائر الأيام، وفي أماكن ليست كباقي الأماكن، خاصة وأن الكُتاب والشعراء والمادحين ألفوا منذ القديم  أن يخلدوا هذه الذكرى فيما يكتبونه، فضلا عن فرح الأهل والأحباب بعودة حجاجهم، وتشوقهم إلى ما سيحكيه هؤلاء الحجاج عن رحلتهم المباركة الميمونة . لكن وإن كانت هذه العودة بهذه المكانة فإن حديثي في هذا الركن المختصر هذه المرة عن هذا اللقب الذي شاع وانتشر، حتى صار يطلق على كل شخص حج أو لم يحج، يصلي أو لا يصلي، فقط يكفي أن تكون هيئته توحي بشيء من التدين، أو سنُّه يشير إلى شيء من الكبر، حتى يستحق هذا اللقب بالتمام والكمال. وأكثر من هذا أن يطلق هذا اللقب على الوالدين، فعوض أن ينادي الابن (أو البنت) والدته أو والدته ب(أبي) أو (أمي) يناديهما ب (الحاج) أو (الحاجة)، وهذا -في تقديري- أغرب ما يمكن أن يسمعه الشخص في بيئتنا المغربية المتشبعة بالثقافة الإسلامية والأعراف التي تقدر الوالدين حق قدرهما.

إن نداء الوالدين بلقب (الحاج أو الحاجة) -حجّا أو لم يحجّا- يفقدانهم أهم خصوصية لطعم الوالدين، وهي الأمومة والأبوة، ويجعلهما -وهما في بيتهما- مثل سائر الناس خارج البيت، فإذا نوديا وهما في البيت بنفس اللقب الذي ينادى به سائر الناس خارج البيت، فأين تبدو خصوصية الأبوة والأمومة.

حدثني صديق لي قال: بعد أن حجت الوالدة أصبحت أناديها بالحاجة، ولم يكن يخطر على بالي أن هذا النداء يسيء أو يقدح في كرامتها أو مكانتها. ولم تمض إلا أيام معدودة حتى قال لي أبي: لا تناد أمك بهذا اللقب، إنها تحب أن تناديها ب “أمي” فهي لا تشعر بنعمة الأمومة إلا بهذا النداء، ولا تشعر بأنها أنتجت شيئا في الحياة إلا إذا كان هناك من يناديها ب “أمي” اعترافا بحقها وفضلها… وفهم الصديق أن أمه هي التي رفعت شكواها لأبيه بعد أن أحست أن أحد أركان وجودها في البيت قد انقض بلقب “الحاجة” عوض “أمي”.

“أمي” “أبي” ما أحلى هاتين الكلمتين وما أغلاهما، ولو كان لفظ أغلى وأحلى منهما وأحسن لاستعمله الرسول صلى الله عليه وسلم ردا على من سأله من أحق الناس بصحابته؟ فقال له صلى الله عليه وسلم : ((أمك)) (ثلاث مرات)، قال: ثم أبوك.

إن من كرم الصحبة ومن لوازمها وتمامها أن ينادى الصاحب بأحب الأسماء إليه، وما أظن أن الوالدين يبغيان بدلا عما يثبت أبوتهما مهما كان الحال.

وإنه لمن الطرائف أن نجد مكونات لفظي “الأم” و”الأب” الصوتية ترددان في معظم اللغات، ومن يدري ربما في جميع اللغات، وخاصة لفظة الأم، وما ذلك إلا لخصوصية نهمة الأبوة والأمومة.

وربما يكون أقبح من (الحاج والحاجة) أن ينادىالأب ب “الشيباني” والأم ب “الشيبانية” وكأن مهمة هذين الشخصين  قد انتهت بتقدم العمر، ولا ينتظر منهما إلا الرحيل.

رحم الله عمر بن الخطاب ورضي عنه حينما سأله شخص وهو يحمل والدته في الطواف ويطوف بها في الحر: هل تراني أديت حقها؟” فقال له: “لا، ولو بطلقة واحدة”. أي لم تؤد ولو واجبا واحدا من واجبات آلام الوضع فقط، فكيف بالأمور الأخرى؟!.. وقال مرة أخرى، هو أو غيره، في مقام مماثل: “لا، لأنك حينما كنت صغيرا كانت تتمنى لك البقاء، وأنت الآن تتمنى لها الفناء”.

> د. عبد الرحيم بلحاج

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>