لـمـاذا تصفية الـوثنية؟


يقرأ الإنسان الآيات الأولى من سورة براءة تلك التي تقول {براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين، فسيحوا في الارض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين، وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الاكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله..} فيتساءل عن الأسباب التي تكمن وراء هذا الإعلان الذي يجيء بمثابة إلغاء نهائي للوثنية.. هذا بينما أتاح الإسلام حرية الاعتقاد لكافة الأديان الأخرى ولم يتخذ إزاءها الموقف نفسه؟

والواقع أن إعلان (براءة) بوقف الوثنية نهائياً، وإلغائها من الخارطة، أمر لا يمكن إدراك أبعاده إلا إذا نظرنا إلى المسألة من جانبيها الحضاري والاستراتيجي، كضرورتين يرتبط بعضهما ببعض وتسوقان إلى اتخاذ إجراء حاسم كهذا.

فأما أولاهما فهي أن الوثنية، على خلاف سائر الأديان الأخرى، تمثل الدرك الأسفل في موقف الإنسان الديني من الكون، موقف يشدّه إلى الحجارة، ويصدّه عن التقدم إلى الأمام، ويحجب عن بصيرته الرؤية الشاملة لدور الإنسان في الأرض وعلاقته بالقوى الأخرى في الوجود. ولو بقي العربي على وثنيته لظل بحكم موقفه المحدود هذا، أسير جهله وتأخره، وسجين عالم تضيق آفاقه لكي ما تلبث أن تعزله عن العالم وتحصره في قلب الصحراء..

لقد كانت الوثنية العربية نوعاً سيئاً من الأمية، وكان إلغاؤها بمثابة حملة شاملة لمحو الأمية.. ولن يعترض أحد على إجراء كهذا بحال من الأحوال..

وأما ثانية الضرورتين فتقوم على أن الدولة العقيدية التي أنشئت في قلب المنطقة العربية وامتد نفوذها السياسي إلى كافة أرجاء الجزيرة، وبدأت تحشد قواها وطاقاتها الجهادية للانتقال صوب الخطوة التالية في التحرك إلى العالم المحيط كله، هذه الدولة كان عليها أن تعتمد استراتيجية صارمة واضحة المعالم، من أجل أن تحمي وجودها في شبه الجزيرة من جيوب الوثنية العربية، ومراكز القوى الجاهلية، وأن تحيط مركز انطلاقها إلى العالم بسياج من الوحدة العقيدية والسياسية على السواء لئلا تضرب من الخلف وهي تمارس صراعها مع القوى الخارجية، حاشدة له جل طاقاتها..

وعلى ضوء هذا الارتباط بين الضرورتين الحضارية والاستراتيجية يمكن أن نتفهم موقف الإسلام إزاء عدد من الأديان. فمهادنته اليهودية والنصرانية في شبه الجزيرة نفسها كان ينبثق عن أن الديانتين كتابيتان متقدمتان فكريا على سائر الديانات الأخرى السابقة والمعاصرة للإسلام. فضلاً عن كونهما لا تمثلان -من الناحية الكمية- خطرا استراتيجياً على الدولة الإسلامية في شبه الجزيرة. إلا أن اليهود عندما نشطوا، قبل غزوة خيبر الحاسمة وبعدها، لضرب الدولة الإسلامية، وإجراء اتصالات عديدة مع القوى الداخلية والخارجية المتربصة، صدر أمر بعدم السماح لهم بالبقاء في الجزيرة، في أقسامها الشمالية على الأقل، وقد تمثل هذا الأمر بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم (لا يجتمع دينان في الجزيرة) كما تمثل بخطوات عمر بن الخطاب رضي الله عنه العملية لإجلاء معظم اليهود عن المنطقة.

وموقف الإسلام كذلك من المجوسية والبوذية، وعدم سعيه لتصفيتهما -رغم تأخرهما الحضاري- يعود إلى أنهما لا يشكلان خطراً استراتيجيا مباشرا على قاعدة انطلاقه إلى العالم، شأن الوثنية في شبه الجزيرة العربية.

وبمجرد نزول آيات براءة، أسرع الرسول صلى الله عليه وسلم نظراً لخطورة الأمر بإرسال علي رضي الله عنه يحمل الآيات والتعليمات المرفقة بها وينطلق إلى مكة، حيث كان أبو بكر رضي الله عنه يقود الحجاج ذلك العام، لكي يتلوها على جموع الناس هناك وفيهم الكثيرون من الذين لا يزالون على شركهم وجاهليتهم.. وبينما تولى أبو بكر رضي الله عنه إمارة الحج راح علي رضي الله عنه يتلو على الناس آيات براءة وتعليمات الرسول صلى الله عليه وسلم >لا يقربن المسجد الحرام مشرك بعد عامه هذا، ولا يطوفن بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فله عهده إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فمدته أربعة أشهر.. وإن الله لا يدخل الجنة إلا من كان مسلماً<..

وسرعان ما آتى هذا الإعلان ثماره، حيث حج الرسول صلى الله عليه وسلم في العام التالي، العام العاشر للهجرة حجته الأخيرة، وفق التقاليد الإسلامية التي لا تشوبها شائبة من وثنية أو جاهلية، وحج معه يومها حوالي مائة ألف من حجاج العرب لم يكن من بينهم مشرك واحد. وقد كان صلى الله عليه وسلم قد مارس تنفيذ الإعلان في الأشهر التالية بأسلوب سياسي محنك وتجنب الاصطدام بالقبائل كي لا يثير عصبيتها ويسوقها إلى ردود الفعل، ولذلك كان يكتفي لدى مقابلة وفودها فيما سمي بعام الوفود بإعلان إسلامهم وانضمامهم إلى الدولة الجديدة، وكان يرسل معهم لدى عودتهم من يعلمهم مبادىء الدين الجديد في ديارهم..

لقد كان إعلان براءة نصراً حضارياً واستراتيجياً لدولة الإسلام وهي تتهيأ للخطوة التالية في تحضير العالم وجهاد قياداته الكافرة جميعاً من أجل منح حرية الاعتقاد للإنسان حيثما كان..

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>