فأين هذا الإعلامُ الانهزاميُّ الذي يعرف كيف يعْبُدَ البَشَر، ولا يعرفُ كيف يَعْبُدُ ربَّ البشر؟! أين هذا من الإعلام الرباني الذي يُعْلي الهِمَّةَ، وينوِّرُ العقل والقلبَ والبصَرَ بالحقائق الخالدة التي لا يعرفها عُبَّادُ البشر؟!
> ففي ميدان التَّصارُع بَيْن الحضارتَيْن : المادية والمعنوية :
نجد أن الله تعالى يقول لعباده مُبَصِّرا لهم بسنته : {إنْ يمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فقد مس القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وتِلْكَ الأيَّامُ نُداوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ}(آل عمران : 140)
وهي سنَّةٌ ربَّانيَّةٌ ليُراجعَ عبادُ الله حسابَهُم مــع الله تعالى. ويقول لهم أيضا : {ولاَ تَهنُوا في ابتِغَاء القَوْم إنْ تَكُونُوا تالَمُون فإنَّهُمْ يالمَُون كما تَالمُون وتََرْجُونَ من اللَّهِ مالاَ يَرْجُون وكانَ اللَّهُ علِيماً حكيماً}(النساء : 103). أيلا ينبغي لعباد الله أن يصيبَهم الضعف والوهن لأنهم وإن تألموا كما يتألَّمُ غيرهم، فإنهم يَرْجُون من اللَّه تعالى مالَا يرَجُوهُ من لا يعرفُهُ من الجهلاء!!!
بـل أكثر مـــن ذلك يقول لهم الله تعالى :{ولا تهِنُوا ولا تَحْزَنُوا وأَنْتُمُ الاعْلَوْنَ إنْ كنْـتُم مُّومنين}(آل عمران : 139) {فلا تَهِنُوا وتَدْعُوا إلى السَّلْمِ واللَّهُ معَكُمْ}(محمد : 36). أي ما دُمْـتُم محافظين على إيمانكم فالله معكم. ومن كان الله معَهُ هل يَفْقِدُ شيئاً وهل يُغْلَبُ أو يُهْزَم؟! وهلْ يخُورُ أو يَضْعُف؟!
وكيف يخورُ أو يَضْعُف وهو رابحٌ في كل الأحوال؟! {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بناَ إلاَّ إِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ ونَحْنُ نتَرَبَّصُ بِكُمْ أن يُصيبَكُمُ اللَّهُ بعذابٍ مِنْ عِنْدهِ أوْ بأيْدينَا فتَرَبَّصُوا إنَّا مَعَكُمْ متَرَبِّصُونَ}(التوبة : 52). فأين الرابحُ في كُلِّ الأحوال من الخاسرِ في كل الأحوال؟!!
>وفي مَيْدان المُوازنة بين الكُفر والإيمان، بَيْن عُباَّد التُّراب وعُبَّاد رَبِّ الأَرْبَابِ :
يقول الله تعالى : {أمْ حسِبَ الذين اجْتَرَحُوا السّيِّئات أن نَّجْعَلَهُمْ كالذين آمنوا وعَملُوا الصَّالِحاَتِ سَواءٌُ مَحْيَاهُمْ وممَاتُهُم سَاءَ ما يَحْكُمُون}(الجاثية : 20) {أفنَجْعلَ المسْلِمينَ كالْمُجْرِمينَ مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}(القلم: 35)
كيف يكونون سواءً والله تعالى يقول: {إنَّ الذين كَفَرُوا من اهْلِ الكتاب والمُشْرِكينَ في نَارِ جَهنَّمَ خالِدِينَ فيها أولئك هُمْ شَرُّ البَريئَةِ. إنَّ الذين آمَنُوا وعَمِلُوا الصالِحَاتِ أُولئك هُمْ خَيْرُ البريئةِ جزَاؤُهُمْ عنْدَ رَبِّهِمْ جنَّاتُ عَدْنٍ تجْري منْ تَحْتِها الانْهَارُ خاَلِدينَ فيها أبَداً رضِيَ اللَّهُ عَنهُمْ ورضُوا عنْهُ ذلِكَ لمَنْ خَشِيَ ربَّهُ}(البينة : 8). كيف تتساوى كَفَّةُ شَرِّ البريئة الذي لا مَوْلَى لَهُ مع كَفّة خَيْر البريئة المُسْنَد باللَّه مَوْلاه؟! وهو نعم المولى ونعم النصير!!! منْ أيْنَ لِأين؟!!
> وفي مَيْدَان المُوازَنَة بَيْن القُوى الرَّبَّانية والقُوى البشرية الماديَّة :
في هذا الميدان نجد أن الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمومنين : {لاَ يعُرنَّكَ تقَلُّبُ الذين كَفَرُوا في البِلاَدِ مَتاع قَليلٌ ثمَّ مَأْواهُم جَهَنَّمُ وبيسَ المهَادُ}(آل عمران : 197) {ولا تَحْسِبنَّ الذين كفَرُوا سَبَقوا إنَّهُمْ لا يعْجِزُون}(الأنفال : 60) . {لا تَحْسبَنَّ الذين كَفَرُوا مُعْجزينَ في الارْضِ ومَأْواهُم النار وَلَبيسَ المصِيرُ}(النور : 55)
هذه كلها آياتٌ تُثَقِّفُ المسلمين الصادقين ثقافة اتخاذ الأسباب كغيرهم من المتربِّصين بهم، ولكن الاعتمادَ كُلَّهُ على الله تعالى، فهو المتوكَّلُ عليه وحْدَه، وهو القويُّ العزيز الجبار، وهو القاهر فوق عباده، وهو وحْده الناصِرُ لعباده، فلا ينبغي أبدا أن تصيبَهُم الهزيمة النفسيَّة أمام القوة المادية الجبارة للأعداء، لأن الله عز وجل آخذ بناصية الأعداء وقوتهم.
إنها ثقافة غابَتْ عن المسلمين -بالانتماء فقط- الذين يحاولُون أن يتسلَّحُوا تسلُّحاً يوازي تسلُّحَ أعدائهِمْ، وهذا لَمْ يَسْبقْ أن كان في التاريخ تساوٍ بين قوة الكفر المادية وقوة المسلمين المادية، بل الذي حدَثَ دائما وأبداً أن القُوى التي تتواجَه هي قوى الكُفر وقوى الإيمان، قوة الحق وقوة الباطل، قوة الله المناصرة للحق، وقوة البشر المناصِرة للباطل. لتظهر معجزةُ الله تعالى التي هي درْسٌ للكافرين لإقامة الحجة عليهم، ودرْسٌ للمومنين لإقامة الحجة بهم.
إنها الغَفْلة التي رَانَتْ على قلوب المسلمين انتماءً، وينبغي أن يَصْحُوا صحوة مباركة ليجدِّدُوا الإيمان بقوة الله تعالى، وقوة حقه، وقوة دينه، وصِدْق وعده، بنصْرهِ لأوليائه وكبْتِ أعدائه، مهْما تقوَّوا، ومهْما تسلَّحُوا، ومهما طغَوْا وتجبَّرُوا، ومهما حَقَدُوا، ومهما مَكَرُوا وتآمروا، ومهما خطَّطُوا وبيَّتُوا، فالله من ورائهم محيط.
وهذه أمثلة ناطِقَةٌ بالحقِّ والصّدقِ والحقيقة الناصعة لمن أَلْقَى السمعَ وهو شهيد :
> فهؤلاء قوم نوح عليه السلام قَضَى قرونا معهم يدعوهم للحق، فلم تزدهم قوتهم من الأمْوال والأولادِ والعتادِ إلا تكبُّرا واستكباراً، ومكَرُوا مَكْراً كباراً، فهل استطاعوا أن يَصُدُّوا الأمطار الهاطلة من السماء، والأنهار المتفجرة من الأرض {ففَتَحْنَا أبْوَابَ السَّماَءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وفَجَّرْنَا الارْضَ عُيُوناً فالتَقَى المَاءُ علَى أمرٍ قَدْ قُدِر}(القمر : 12)
فهل استطاعوا أن يسُدُّوا أبواب السماء؟! هل استطاعُوا أن يُوقِفُوا تفْجير العيون؟!
فمال قَوْمِنا الغافلين المَهزومين لا يكادُون يفقَهون كلام ربِّ العزة الذي لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء؟!
> وهذا فرعَوْنُ المتألِّه وقومُهُ المطيعُون له في سفاهته وحُمقه يقول فيهم الله تعالى{فلمَّا آسَفُونا انتَقَمْنَا منْهُمْ فأغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ فجَعَلْناهُمُ سلفا ومَثَلا للآخرين}(الزخرف: 56)
فهل مُتَألِّهُو العصر يستطيعون أن يوقفوا حركة البَحر إذا أمرهُ اللَّهُ بإغراقهم.
> وهؤلاء أصحابُ بدر عندما استغاثوا بالقوة الربانيَّة لتقف في وجه القوة الطاغية أمدَّهم الله تعالى بألف من الملائكة مُردَفين، فحُسمَت المعركة لصالح المسلمين في لمح البصر!!! {إذْ تسْتَغيثُون ربَّكُم فاسْتَجابَ لكُمْ أني مُمِدُّكُمْ بألْفٍ من الملائكَةِ مُرْدفين}(الأنفال : 9).
فهل تستطيع القوة العاتية في هذ العصر أن تقف في وجه ألفٍ أو آلاف من الملائكة؟! بل هل تستطيع أن تقف في وجه مَلَكٍ واحِدٍ من الملائكة المُجَنَّدين لنُصْرة عبادِ اللَّهِ المجاهدين؟! فما لكُمْ لا تتَدَبَّرُون؟!
> وهؤلاء أحزابُ الكفر في غزوة الاحزاب تمالَأُوا كلُّهم لاستئصال الإسلام والقضاء على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فماذا كانت النتيجة؟! النتيجة هي ما أمرنا الله تعالى بذكْره دائما، وتدبُّره دائما، حتى لا نُصَابَ بالهزيمة القاتلة من داخل أنفسنا!!! {يا أَيُّهَا الذين آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ علَيْكُمْ إذْ جاءتْكُمْ جُنُودٌ فأرْسَلْنَا علَيْهِمْ ريحاً وجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وكان اللَّهُ بما تَعْمَلُونَ بَصيراً}(الأحزاب : 9).
يَا مَنْ تومنُون بالله تعالى الذي المُلك كُله بيديْه، ومُسَخَّرٌ ليكون مِنْ جنودِكُمْ إذا كنتُم من جنود الله الغالبين؟! هَلْ تستطيعُ طائراتُ وبارجاتُ ودبابات وقنابل العدوِّ لدين الله ورسوله والمومنين أن تقف في وجه الريح الصَّرْصرِ؟! أو البحر المتلاطم الأمواج؟! أو الأرض المتزلزلة؟! أو الأمطار المغرقة؟! أو القَحْطِ المُيَبِّس للبلاد والأكباد؟! أو إيقاف دقات القلوب عن الحركة والنَّبْض؟! أو تجْميد أدْمغة الماكرين والمتآمرين؟! وهل تستطيع أن تُمْسِك قلوبها عن الارتعاش من شدة الخوف إذا ألقى الله فيها الرُّعْبَ المرعب؟! وإن كانتْ دَاخِل غُرف طائراتها؟!
أليْسَتْ السُّحُبُ القاتمة؟ والصواعق المرْسَلَة بالرُّعودِ المُبْرقة والمزلزلة كافية لإحراقهم داخل طائراتهم؟!
هذا شيء قليل مِمَّا نَعْرفه، وما غابَ عنَّا من قوة الله تعالى وجنوده لا يَعُدُّه حَصْرٌ، ولا يحصيه عَدٌّ {وما يعلمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلاّ هُوَ}.
فأين الذي لا يستطيع أي كائن أن يَعْلَمَ عَدَدَ جنده من الذي جنوده وعتاده وقوته مُحصاة في السجلات البشرية وقبل ذلك في السجلات الربانية؟! وأين الذي له جنود السموات والأرض من الذي لا يستطيع أن يَسْتَوعب ولَوْ جزءا بسيطا من جنود البشر؟! فضلا عن جنود الأرض كلها؟! أين أين يا مَنْ هزمتم هزيمة نفسية كبرى وصرتم لا تخافون من الله فخوفكم من كل شيء.
فما لكم لا تُبْصِرُون؟! ولا تتبصَّرون؟! ايها اللاهثون وراء التسليح المادِّيّ فقط؟! وتنسَوْن سلاح الحق؟! وسلاح الدعوة للحق؟! وسلاح التحدي بالحق؟! وسلاح البناءِ الداخليِّ بالتربية على الحق؟!!!