المشروع الحضاري والبداية الصحيحة


إن الدعوة لتقديم المشروع الحضاري الإسلامي (البديل) قد لا تعني شيئاً على الإطلاق ما لم تتحدّد أمام المسلم المعاصر خطط العمل، والفرص الواقعية لتحويل مفردات المشروع إلى خبرة متحققة في الزمن والمكان.. إلى حياة تنبض وتنمو وتواصل تجذّرها في الأرض وامتدادها في الآفاق..

إنها عملية نسيج من نوع فريد تسهم في حبك خيوطه أقطاب شتى : الفرد، الجماعة، الشعب، المؤسسة، الدولة، النشاط المعرفي، الفكر والثقافة.. فاذا أستطاع النسّاجون توظيف هذه الأقطاب جميعاً، أو الجوانب القابلة للأسلمة منها، وهي بالتأكيد كبيرة المساحة غزيرة العطاء.. إذا استطاعوا لمّ الجهود المبعثرة وتوجيه الأشعة المنبثقة هنا وهناك صوب البؤرة الواحدة، لخدمة المشروع الواحد، فانهم يكونون قد وضعوا خطواتهم على الطريق الصحيح.

كل صيغ العمل الشعائري أو التعبّدي أو التربوي أو الدعوي أو الحركي أو السياسي أو الجهادي أو الفكري أو الثقافي أو المعرفي أو الاجتماعي.. إذا أحسن التعامل معها وتّم قبولها باعتبارها مفردات صالحة لتغذية المشروع، يمكن أن تعين على الهدف وأن تسهم في النسيج الشامل.

إن تغاير البيئات والخبرات الإسلامية يتحتّم الاّ يكون سلاحاً نشهره ضد أنفسنا، بل فرصة جيدة للتوظيف وفق أنساق تكاملية تجعل التعبّدي والتربوي والاجتماعي والدعوي والسياسي والجهادي والفكري والمعرفي.. الخ.. تلتقي على صعيد واحد مع تغاير زاوية الرؤية والفعل والانطلاق.

وبمقدور المرء في ضوء الملاحظات المذكورة أن يضع يديه على منظومة من الممارسات “العملية” التي يمكن أن تعين على نسج الخيوط الأولى في مشروع النهوض أو البديل الحضاري.. ولنتذكر دائماً أنه ليس بديلاً لحضارة الآخر، بغض النظر عن مساوئها وتناقضاتها، وانما لتخلّفنا نحن وحاجتنا الملّحة إلى المشروع الذي يضعنا في المكان المناسب من خارطة العالم.

إن الجهد المطلوب -وبإيجاز شديد- يكمن في المعادلة التالية : “اختراق الحياة شبه الإسلامية بمفردات إسلامية”. وهذا ما حدث -بالفعل- منذ عقود عديدة، بل ربما منذ اللحظات المبكرة للصدمة الاستعمارية في منتصف القرن التاسع عشر. لكن الجهد -في معظم الأحيان- كان مرتجلاً مجزوءً لا يملك منهج عمل محدّد ، ولا بوصلة توجيه تعرف كيف تحدّد الهدف وفق مطالب اللحظة التاريخية. ولا يملك -كذلك- رؤية شمولية تلّم المفردات في أنساق محكمة لكي تكون أكثر قدرة على الفاعلية.

والبداية الصحيحة للاختراق هي بالضرورة بداية فكرية تنطوي على جهد مركب : يمضي احدهما باتجاه الإصلاح والتقويم وإعادة تعديل الوقفة التاريخية الجانحة، ويسعى الآخر إلى ابداع أو تصميم صيغ جديدة تستجيب للمتغيرات وتتعامل معها بأقصى درجات المرونة والوعي. وسيكون ما يصطلح عليه بعبارة : “إعادة فتح باب الاجتهاد” حلقة أساسية في هذا الجهد، بل هي جوهره وحجر الزاوية فيه إذا أردنا الدقة. وما لم يتحقق هذا وفق شروطه المحدّدة، فأن أية محاولة لإصلاح مناهج الفكر لن تأتي  بنتيجة.. إن قدر القيادات الإسلامية وهي تنسج الخيوط الأولى لمشروعها الحضاري هي أن تكون قيادات مجتهدة قديرة على تحكيم “الفقه” في مواجهة المعطيات المتجدّدة والمتغيرات المزدحمة في الزمن والمكان.

إن المشروع والحالة هذه يتطلب فقهاء مفكرين أو مفكرين متفقهيّن، إذ لا يكفي أن يكون هناك مفكرون لا يملكون آليات الاجتهاد ولا مجتهدون لا يملكون خبرات العصر المعرفية.

الخندق العميق الذي حفرته قرون الانفصام النكد يجب أن يردم، والبداية الحقيقية للنهوض لن تكون ما لم يتّم اللقاء ثانية بين القطبين.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>