الدّعوة ليْسَت تطوُّعاً واختياراً ولكنها إلْزَامٌ والتِزَامٌ تقرُّباً واعْتِذَاراً


إن الذي أطمَعَ الكفرَ -بجميع مذاهبه ومفاهيمه- فينا أشياء عديدة، على رأسها :

1) هجرانُ السلوك الإسلامي الحق في جميع مرافق الحياة، بسَبَب الغزو الكفري صناعيا، وإعلاميا، وثقافيا، وتعليماً، وتقنية وإدارة، وتفكيراً وتخطيطا، ولسانا ولباساً وذوقاً ومشاعر.

2 الترحيبُ بالكفر، والمبالغةُ في الاحتفاء به والتبعيَّةِ له على نطاق الأصعدة العُلْيا المتبوعَة والمُقَلَّدة.

3) تهْميش الإسلام في التعليم، حيث لا يُعَلَّمُ منه للصغار والكبار إلا نُتَفٌ من هنا وهناك، ترسيخاً عملياً في الأذهان بأن الإسلام ليسَ هو عِلْمَ الحياة، وعِلْمَ الحُكم، وعِلم السياسة، وعِلْم البحث العلمي، وعِلم إدارة الحياة بحكمة وهدف قريب وبعيد.. ولكنه علمُ القبور والجنائز والمواعظ في المواسم والمناسبات.

4) الاستهزاء برجال الإسلام ونسائه، حيث لامكان لهم في سُلّم الترشيح للمسؤوليات المؤثرة، فإذا كان الله عز وجل جعل القوة والأمانة عمودَيْن أساسِيَّيْن في اختيار من تُناط به أية مسؤولية، فإن عَمُود الأمانة -الدين- انّمَحَى نهائيا، وبقي عمود  القوة على حسب الأهواء.

فرجال الإسلام ونساؤه كالأصفار على الشمال لا يُوضعُون على اليمين إلا عند التّزْيين والتَّأثِيثِ لأنماطِ التحاوُر المهزوز، وأنماط التعايُش المهزوم.

5) تشويهُ صورة الإسلام بجعْلِه منبعاً لكل الفتن والاضطرابات، ومنبعاً لجميع النُّتُوءات والتطرُّفات، ومنْبعاً لكُلِّ التآمُرات والانحرافاتُ، مع أن الإسلامً عَكْسُ هذا على طول الخط، ولكن الإعلام -مع الأسف- رسَّخً في الأذهان أن الإسلام يساوي الإرهاب بدون فهم ولا تمعُّن.

6) وضع الحواجز والعراقل والعقبات الكؤود أمام كُلِّ من يريد أن يخدمَ الإسلامَ، ويدْعُوَ إليه بالقَوْل أو العمل، أو التأسيس، أو الإعلام بصفة مستقلة لا تخضع لحِزْب فلان، أو نظام علان، لأنهم لا يريدون إسْلاماً جارّاً، ولكنهم يريدونه إسلاماً مجروراً.

7) إحْياءُ نَعْراتِ المذاهب البشرية التي قَسَّمت المجتمعات الإسلامية قديماً إلى أوزاعٍ وفِرَق متعادية متناحرة فرغم أن الإسلام الصافيَ موجود في القرآن والسنة الصحيحة، إلا أن الكثير من الذين اشتَغَلُوا بالدّعوة للإسلام اشتغلوا بها متأثرين بمذْهبٍ بشريٍّ مُعَين، أي انطلقوا في الدّعوة بفهْم شخص مُعيَّن أو مذهب مُعَيّن، والفَهْم البشريُّ إذا أصبح ديناً أفْسَدَ الدِّين، لأن الدّين دَيْنُونةٌ وخُضُوعٌ للّه تعالى بدون واسطة، لأن الله تعالى قال لرسوله صلى الله عليه وسلم ولنا .{يَا أَيُّها النَّبِيءُ إنّا أرْسَلْناكَ شاَهِداً ومُبَشِّراً ونَذِيراَ وداعِياً إلى الله بإذْنِه وسَراجاً مُنِيراَ}(الأحزاب : 46) فالرسول صلى الله عليه وسلم ليس واسطة بين العبد وربه، وإنما هو متبوعٌ ومقتدَى به لكوْنِه المسلمَ الأوَّلَ والأكْمَلَ والنموذَج الأعْلَى في التطبيق، وكذلك ورثتُه من العلماء والدّعاة متبوعُون بصفتهم مساعدين على حُسْن الفهْم والتطبيق للإسلام، وليس لهم من الأمْر شيءٌ.

لكن المصيبة الكبرى هي في التعصُّب لفلان أو علان وليس للحق والإسلام الصافي الربّانِيّ.

فهذه الفرقة التي فرقت المسلمين قديماً قد أصبحت اليوم كذلك مصائدَ وفخاخاً يتسرَّب منها الشيطان بجميع فئاته وأحزابه لتفتيت المسلمين وضَرْب بعضِهم بعْضاً، نسأل الله الرشد والسلامة.

هذه بعضُ الأسباب التي جعلتْنا لُقْمةً سائغةً في حُلُوق الكُفر المُسْتعْمِر والمُسْتأسِد على شعوب المسلمين وأمّتهم. ولا علاجَ لهذا إلاَّ بإيقادِ نور الدعوة الربانية، وإحْياءِ بحْرها الزّاخر، فذلك وحده الكفيل بإرجاع الأمة إلى أصالتها وتربيتها على التصالُح مع ذاتها.

وذلك لا يتم إلا باعتبار الدّعوة لازمةً مُلْزمة للدلائل التالية :

1- لاَ قَبُول لعبادَةٍ بدُونِ شرْع نـــازِل : قال تعالى في بيان الغاية من خلق الجن والإنسان .{وما خَلَقْتُ الجِنّ والإنْسَ إلاّ ليَعْبُدُون}(الذاريات : 56) فالله تعالى أنزل الكُتب وبعث الرسُل لتحقيق غاية تعْبيد الإنسان لله وفق مُرَادِ الله تعالى وشرعه، أفيكونُ انقطاعُ بعثة الرسُلِ عُذْراً للانقطاع عن عبادة الله تعالى؟!

كلاّ، ثم كلاَّ، وألْفُ كلا!! بلْ شُعْلةُ الرُّسُل والأنبياء يتولاّها ورَّاثُهم من العلماء والدّعاة .{ثمَّ أوْرَثْنا الكِتابَ الذِين اصْطَفَيْنا من عِبَادِنا}(فاطر : 32) فمسؤولية العلماء والدّعاة والحكام والولاة والآباء والأساتذة ثقيلة جدّاً إذا هُمْ كانوا سبباً في تعريض الكون للدّمار بسبب انقطاع العبادة لله تعالى!!!

2- لاحسابَ ولا امتحانَ بدون تقديم مادّة الامتحان : قال تعالى .{أَفَحَسِبْتُمْ أنَّمَا خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وأنّكُمْ إِلَىْنا لا تُرْجَعُون}(المومنون : 116) فالآية وعيدٌ شديد، وتهديد كبيرٌ لمن يظن أنّهُ وُجِدَ على ظهْر الأرض بدون مسؤولية ولا متابعة، فهل يصحّ في الأذهان إسقاط تلميذٍ في مادّة لم يعْرِفها ولم يدْرُسْها، ولمْ يُهَيَّأ له أستاذُها؟!

فكذلك الإنسان سيحاسَبُ على إسلامٍ بلَّغَهُ له الرسل أو خُلفاؤهم وورّاثُهُم فأعْرَضَ عنْهُ واستكبر وعاند.

أليس هذا من أكْبر الواجبات الدّافعةِ للقيام بمسؤولية الدّعوة، وإلا كان الذي عَلِم الإسلام ولم يُبَلِّغْه من أول المسؤولين والمحاسبين والساقطين يوم العرض والامتحان؟!

3- كتمانُ عِلْم الإسلام مُوجبٌ لسُخْطِ اللّه عز وجل ولعْنة اللاّعِنين : قال تعالى .{إنّ الذِينَ يكْتُمُون ما أنْزَلْنا من البَيّناتِ والهُدَى من بعْدِ ما بيّنّاه للنّاسِ في الكِتابِ أُولئِك يلْعَنُهم الله ويَلْعَنُهم اللاّعِنُون}(البقرة : 158) يدْخُلُ في هذا العلماء السّاكتون والدّعاة الراضون بالزحف الكفري، والحُكّام المُلْجِمُون للعلماء والدّعاة، والمسؤولون الكارهون للإسلام، والآباء المغرِّبُون لأولادِهِم عن رضاً وطواعية، والإعلاميون الذين يشجعون اللهو والعبث ويستهزئون بالإسلام ودعاته، والمخططون للتعليم الذين يحجبون عن الناشئة علم الإسلام ورحمته وهداه، فكلهم كاتمٌ لبيِّنات الإسلام ومنهجه وهداه.

4- الدّعوةُ أحسنُ وظيفة على الإطلاق : قال تعالى .{ومَن أحْسَنُ قوْلاً مِمّنْ دَعَا إلى اللّهِ وعمِلَ صالحاً وقال إنّنِي من المُسْلِمِين}(فصلت : 32) فوظيفة الدّعوة وظيفةٌ أخرويّة ربّانيّة أجْرُها يؤخذ من الله عز وجل مباشرة يوم الجزاء، وهي لا تتعارض مع أية وظيفة دنيوية، فالداعية يمكن أن يكون تاجراً وطبيباً ومهندساً وبيطريا، وأباً، وأمّا، وحاكما، وواليا، وأستاذاً وبرلمانيّاً، ومستشاراً، لأن الدّعوة تكون بالحال والمقال، وبإتقان العمل وإخلاص النصح وإحسان المعاملة، وطيب الكلام.

فليس ضروريا أن يكون للدّعوة رجال خاصون، ومؤسسات خاصة والباقي معفوٌّ منها، فليس في الإسلام رجال كهنوت، ولكنّ كُلّ مسلم يساوي داعيا إلى الله تعالى.

أما مؤسسات الدّعوة، ورجال الدّعوة، ومدارس الدّعوة فتلك مراجع ضرورية للمحافظة على نقائها وتقديم الفقه ا لضروري لها حتى تبقى الدّعوة في الأيْدي الأمينة الكفيلة بالاجتهاد والتخطيط والإرشاد.

5- الدّعوة وظيفة الرسل : وهُمْ صفْوةُ الخلق وأحباءُ الله عز وجل، قال تعالى : .{قُلْ هَذِهِ سَبِلِيَ أدْعُو إلى اللّه على بصِيرَةٍ أنا ومَنِ اتّبَعَنِي}(يوسف : 108) ومن يزْهَدُ في وظيفة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ويدّعي محبّتَهُ إلا المنافِق الكذاب؟!

6- لا عَلاَقَة للدّعْوَةِ بالرَّفْضِ أو القَبُول أو بالنصر والهزيمة : عِنْدَما شُجَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في أُحُدٍ، وكُسرت رباعيته، وهُشِّمت البيْضة على رأسه، ورماه المشركون بالحجارة حتى وقع لجنْبِه، وغاصَتْ حلقتان من حلق المغْفَر في وجْنَتِه، وسال الدّمُ على وجْهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمسحه وهو يقول : >كَيْفَ يُفْلِحُ قوْمٌ خَضَّبُوا وجْهَ نبِيِّهِم وهُوَ يَدْعُوهُم إلى ربِّهِم< فقال له الله تعالى : .{لَيْسَ لكَ منَ الأمْرِ شيْءٌ أو يتُوبَ علَيْهِم أو يُعَذّبَهُم فإنّهُم ظَالِمُون}(آل عمران : 128).

أي الدّعوة يجبُ أن تمْضي تحتَ أي ظرف كان، وحكمةُ ذلك يعلمُها الله تعالى أي سواء في حالة البأساء والضراء، أو في حالة النعماء والسراء، أو في حالة النصر أو الهزيمة، وهذا يشبه قوْلَ الله فيمن سبقنا من الأمم .{وإِذَ قَالَتْ أمُّةٌ مِنْهُم لِمَ تَعِظُون قوْماً اللّه مُهْلِكُهُم أو مُعَذِّبُهُم عَذَاباً شَدِيداً؟! قالُوا معْذِرَةٌ إلى ربِّكُم ولعَلَّهُم يَتَّقُون}(الأعراف : 164) أي أن الدّعوة واجبٌ خالصٌ للّه، عليْنا القيامُ به إقامةً لحُجَّة الله من جهة، ومِنْ جهة نُبَلّغُ إلى الله عُذْرنا فيكتُب اللّه تعالى لنا أنّنا قُمْنا بالواجب وأدّيْنا الأمانة، ثم لعَلّ النُّصْحَ يأتي بخير كثير أو قليل.

وهناك -زيادة على ما سبق- أوامِرُ مباشرة بالقيام بالدعوة، مثل قوله تعالى : .{أُدْْعُ إلى سَبِيل ربّك}(النحل : 125) .{ولْتَكُنْ مِنْكُم أمّةٌ يَدْعُون إلى الخَيْرِ..}(آل عمران : 104) .{وتوَاصَوْا بالحقِّ وتَوَاصَوْا بالصّبْرِ}(العصر : 3) إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الصريحة في تبليغ الدعوة.

لكن الذي ينبغي التنبُّهُ إليه هو أن التخلي عن الدعوة يعقُبُه عقابٌ شديدٌ، وعذابٌ أليمٌ يصل إلى درجة السَّحْقِ والمَحْقِ، قال تعالى : .{فإنْ يَكْفُرْ بِها هَؤلاَءِ  فَقَدْ وكََلْنا بها قوْماً ليْسُوا بِها بكَافِرِين}(الأنعام : 90) وقال تعالى : .{وإنْ تَتَوَلَّوْا يسْتَبْدِل قوْماً غََيْركُم ثُمّ لا يُكُونُوا أمثَالَكُم}(محمد : 39) وقال تعالى : .{إنْ يَشَأْ يُذهِبْكُمْ ويَاتِ بخَلْقٍ جَدِيد}(فاطر : 16).

أليْسَتْ هذه الآيات كُلُّها دليلا قويا على أن المسلمين لا خيارَ لهم في التمسك بدينهم، والقيام بالدّعوة لهذا الدين الذي هُم به موْجُودُون، فإذا ما تخلَّوا عنه أو تخَلوا عن الدعوة إليه فَقَد فقَدُوا مُبَرِّرَ وجودهم، ولا ينفعُهم آنذاك زعيمٌ عالمِيٌّ، أو نظام عالميٌّ، أو مشروع حداثيّ أو علمانيّ، أو احتِماءُ بكفار طغاةٍ مجرمين .{لا يغُرَّنَّك تَقَلُّبَ الذِين كَفَرُوا في البِلادِ متَاعٌ قليل ثمّ مأّواهُم جَهَنَّم وبِيسَ المِهاد}(آل عمران : 197) .{والذِين كَفَرُوا إلى جهنَّم يُحْشَرون ليمِيز اللّه الخبِيث من الطّيِّب ويجْعَلَ الخَبِيثَ بعْضَه على بَعْضٍ فيَرْكُمَه جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ في جهَنَّم أُولَئِك هُم الخَاسِرُون}(الأنفال : 37).

إن حِصْن الله أقوى من كُلّ حِصْن، والالتجاء لله والاحتماء به أقْوى من كل احتماء أليس هو سبحانه القائل : .{ذَلِكُم وأنّ اللّه مُوهِنٌ كَيْدَ الكَافِرين}(الأنفال : 18) والقائل للمومنين : .{وأنّ اللّه مع المُومِنِين}(الأنفال : 19). فأيّ مبرّر بَقِي للسكوت؟! وأيُّ عُذْر بَقِي للتخلِّي والنكوص؟!

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>