تعقيبات وتوضيحات ومستفادات :(1) تعقيبات وتوضيحات :


1) سنة الابتلاء:

إنّ الابتلاء سنّة ربّانية أزليّة خالدة، قال تعالى : > {ألمِ أحَسِب النّاس أن يُتْرَكُوا أن يَقُولُوا آمَنَّا وهُمْ لا يُفْتَنُون}(العنكبوت : 1).

> {أمْ حَسِبْتُم أنْ تَدْخُلُوا الجنَّةَ ولمَّا يأتِكُم مَثَلُ الذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مسَّتْهُم البَأْسَاءُ والضَّرّاء وزُلْزِلُوا حتّى يَقُول الرّسُولُ والذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ألا إنّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيب}(البقرة : 212).

2) الرسول صلى الله عليه وسلم يرسِّخُ في النفوس الإيمان بسنّةِ الابتلاء :

جاء خباب رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة- فقال له : ألاَ تسْتنْصِرُ لنا؟! ألا تدْعو اللّه لنا؟! فقعَد الرسول صلى الله عليه وسلم -وهو مُحْمَرٌّ وجهه- فقال : ((كان الرَّجُل فِيمَن قبْلَكُم يُحْفَرُ له فِي الأرْض فيُجْعلُ فِيه، فيُجاءُ بالمِنْشارِ فيُوضَعُ على رأْسِه فيُشَقُّ باثْنَىْن، وما يصُدُّه ذلِك عن دِينِه، ويُمْشَطُ بأمْشَاطِ الحَدِيد ما دُون لحْمِه من عَظْمٍ أو عَصَبٍ وما يَصُدُّه ذَلِك عن دِينِه، واللّه لَيَتِمَنَّ هَذَا الأمْرُ حَتّى يَسِير الرّاكِبُ من صنعاءَ إلى حَضْر مَوْت لا يَخَافُ إلاّ اللَّه والذِّئْبَ على غَنَمِه، ولكِنَّكُم تَسْتَعْجِلُون))(1).

3) رحمةُ اللّهِ في الابتلاء : إن الله تعالى الذي خلق الإنسان يعْلَمُ مقدار طاقتِه ومقدار تحمُّلِه، ولهذا العِلْم بطاقَةِ كُلِّ إنسان فإنه سبحانه وتعالى يرْحَمُ عبادَهُ الذين اختارهم لديِنِه فَيُجْري عليهم سنّة الابتلاء ولكن بالقَدْر المتناسب مع طاقتهِم حتى لا ييْأَسُوا أو يُهزَمُوا نفسيّاً فيخرُجوا من دائرة الصّبر والمجاهدَةِ والتحدِّي إلى دائرة الاستسْلام والانبطاح، عن أبي سعيد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قلتُ : يا رسول الله أيُّ الناسِ أشد بلاءً؟! قال : ((الأنْبِياء ثمّ الأمْثَلُ فالأمْثَلُ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ علَى حَسبِ دِينِه، فإن كان في دينِه صُلْباً اشْتدَّ بلاَؤُه، وإن كان فِي دِينِه رِقَّةٌ ابْتُلِي حسَب دِينِه، فمَا يَبْرَحُ البلاءُ بالعَبْد حتى يتْرُكَه يَمْشِي على الأرض وما عليه خَطِيئةٌ))(2).

4) الربانيون ورثةُ الأنبياء والرسل لهم دراية كاملة بسنة الابتلاء :

لقي ورقةُ بن نوفل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكعبة في بداية الوحي، فقال له : يا ابن أخي أخبرني بما رأيتَ وسمعتَ، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له ورقة : ((والذِي نفسي بيدِه إنك لنبيُّ هذه الأمةِ، ولقد جاءَكَ النامُوسُ الأكبرُ الذي جاءَ موسى، ولتُكَذَّبَنَّهْ، ولتُؤْذَيَنَّهْ، ولتُخْرجَنَّه، ولتُقَاتَلَنَّهْ، ولئن أنا أدركتُ ذلك اليومَ لأنصرَنَّ الله نصراً يعْلَمُه))(3).

5) صُور مشرقة للناجحين في امتحان الابتلاء :

> أصحابُ الأخْدُود : قصتهم مختصرة في أنهم جماعة من النصارى المؤمنين حقا، المسلمين حقا، الراغبين في أن يكونوا عبادَ الله حقّاً، ولكن الطغَاة المجرمين أبَوْا عليهم أن يكونوا عباد الله حقاً، وأرادُوهُم أن يكونوا عباداً لَهم من دون الله تعالى -كعادة المجرمين في كل زمان ومكان، وعندما استعصى المؤمنون على التطويع حَفَرُوا لهم أُخدوداً وأوقَدُوا ناراً، وألْقَوْا فيه جماعة المؤمنين، فماتوا حرْقا -والمجرمون يتفرَّجُون- وجريمةُ المؤمين هي الثباتُ على عقيدتهم وإيمانهم {والسّمَاءِ ذَاتِ البُرُوجِ واليَوْم الموعُودِ وشَاهِدٍ ومشْهُودٍ قُتِلَ أصحابُ الأُخْدود النّارِ ذَاتِ الوَقُودِ إذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ وهُمْ على ما يَفْعَلُون بالمُومِنين شُهُودٌ وما نَقَمُوا مِنْهُم إلاّ أن يُومِنُوا باللّهِ العَزِيزِ الحَمِيد الذِي له مُلْكُ السّماواتِ والأرْضِ واللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}(البروج : 1- 9) انتهتْ قصّةُ المؤمنين المتجرِّدين لله تعالى ولدينه بالفَوْز في الدّنيا والآخرة، فوْزٌ بالذِّكر الخالد، والنعيم الخالد، فوزٌ بامتلاكِ الروح وإن خَسِرُوا الجسدَ وشهواته في الدّنيا، وفوزٌ بكسْرِ حِدَّةِ الطغيان وتلقينه الدّرسَ الكبيرَ في أنه وإنْ امتلك السيطرة على الأجساد والأشكال فإنه لا يستطيعُ السيطرةَ على القُلُوب وما فيها من معاني الصِّدْق والإيمان، معاني الحريّة الحقيقيّة، ومعاني الكرامة الإنسانية التي لا يقتلها الحريق ولكن يقتلُها -حقا- الانصياع لسفالة الإنسان، وسفاهة الطغيان.

> رجُلُ ياسين : الذي جاء -من بعيد- مناصِراً المرسلين عن علم وبينة، فلَمّا جادَلَه قومُه مكابرة وعناداً تحدّاهُم وقال لهم : {ومَالِيَ لا أعْبُد الذِي فطَرَنِي وإِلَيْه تُرْجَعُون آتَّخِذُ مِن دُونِه آلِهَةً إنْ يُرِدْنِ الرّحْمانُ بِضُرٍّ لا تَغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهم شَيئاً ولا يُنْقِذُون إنِّى إذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِين، إنِّي آمَنْتُ برَبِّكُمْ فاسْمَعُونِ} وعندما وصل إلى هذا الحدِّ قتلوه، فقال له الله تعالى : {قِيلَ ادْخُلِ الجنَّةَ}.

وعلى نفس الطريق سار مؤمن آل فرعون الناصح الأمين لقومه بكل تجرد وإخلاص.

> في أعقاب غزوة أحُدٍ أراد المشركون -إعْلامِيّاً- أن يُوهموا المسلمين أنهم راجعون إليهم لاستئصالهم في مدينتهم، قَصْد إنزال الهزيمة النفسيّة بهم بعد توهُّمِهم أنهم حَقَّقُوا نصراً على المسلمين يشفي الغليل، ولكن المسلمين -بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم- خرجُوا إليهم -رغم الجراح والعَنَتِ وقلةِ الزاد والنصير- فرحين مستبشرين مَرَحِّبين بكُلّ ما قدّره الله تعالى عليهم وانتدبَهُ لهم، غير ضَجرين ولا قانطين، فَرَدّ الله عز وجل كيد العَدوّ في نحْره، وأرْجَع الصابرين من هؤلاء المؤمنين منصورين فائزين {الذِينَ قالَ لهُم النّاسُ إنّ النّاسَ قدْ جَمَعُوا لكُم فاخْشَوْهُم فَزَادَهُم إيمَاناً، وقالُوا : حَسْبُنا الله ونِعْمَ الوَكِيل فانْقَلَبُوا بنِعْمةٍ مِن اللّه وفَضْلٍ لمْ يمْسَسْهُم سُوءٌ واتّبَعُوا رِضْوانَ اللّه واللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيم}(آل عمران : 173- 174).

6) الابتلاءُ يصْنَعُ التّحَدّي : إن الإنسان داخل أسرته أو مجتمعه يعيش وفق الظروف والعادات والتقاليد التي تحكم تلك الأسرة أو ذلك المجتمع، فإذا سار كل فرد في تلك الأسرة حسب مركزه وموقعه ومكانته  داخل الأسرة أو المجتمع سارت الأمور عادية، لكن الأمور تتغَيَّرُ عندما يخرج الأب عن مَسَاره الطبيعيّ أو الأمّ من مسارها الطبيعيّ، أو السّيّد عن مساره الطبيعي، فتصبحُ الأمّ تُرغِم الإبن على الرجوع عمّا اختاره في حياتِه من المعتقدات والسلوكات، آنذاك يقع التصادُم، إذْ ليس أمَامَ الإبْن إلا مقاومَةُ تعدِّي الأمِّ أو الأب على حُرّية اختيار الإبن لمسلكه ومعتقده، وليْس أمام العبْد إلا مقاومَةُ تعدِّي السّيد على حريّة العَبْد في اختيار معتقده ومسلكه التي لا تضر بمصلحة السّيّد، وآنَذَاك بمقدَارِ قوة التعدِّي تظهَرُ قوةُ المُقاومَةِ، وقوةُ الثبات، وقوة الصبر، وقوة الاحتمال والتحدي. وبذلك يكون التعدِّي هو الذي صنَعَ المقاومة، وبذلك -أيضا- يكتشِفُ المتعدَّى عليه ما اخْتزَنَهُ الله تعالى داخل نفسه الإيمانية من القدرة على الاحتمال، والقدرة على المجابهة والتحدي للظلم والعدوان. وتلك -أيضا سُنّة من سُنَن الله تعالى في إخْراج الطاقات المذخورة، والضغائن المستورة {أمْ حَسِبَ الذِينَ فِي قُلُوبِهم مرَضٌ أن لَّنْ يُخْرِجَ اللّه أضْغَانَهُم}(محمد : 30).

7) شُروط التحدّي :

أ- التصوُّر الواضح : لبداية الإيمان ونهايته، البداية : {إنّ الذِين قالُوا ربُّنا الله ثمّ استَقَامُوا} والنهاية : {تتنَزَّل عليهم الملائِكةُ ألاّ تخَافُوا ولا تحْزَنُوا وأبْشِرُوا بالجَنَّةِ التِي كُنْتُم تُوعدُون}(فصلت : 30) -والتصور الواضح لبداية الكفر ونهايته {إنّ الذِين لا يرْجُون لقَاءَنا ورَضُوا بالحَياةِ الدُّنْيا واطْمَأَنُّوا بِها والذِينَ هُم عن آيَاتِنا غَافِلُون أولَئِكَ مأْواهُم النّارُ بِما كَانُوا يكْسِبُون}(يونس : 8)- حتى يكون المؤمِن راغباً فيما عند الله عز وجل عن علم وبينةٍ، ومُنْصرفاً عن الكفر عن علم وبيّنة، فالعلمُ بالنتيجة والعُقْبَى أساسُ التحدي.

ب- الثقة المطلقَةُ في وعْدِ اللّه تعالى : وتاريخُ الأنبياء والرسل والصالحين من عباده كلُّه دليل صِدْقٍ ووفاءٍ تحقيقا لقول الله تعالى {ولَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لعِبَادِنا المُرسَلِين إنّهم لهُم المَنْصُورُون وإنّ جُنْدَنا لهُم الغَالِبُون}(الصافات : 173) هذه الثقة تجعل المؤمن مستنداً إلى رُكْن مكين يؤهله للتحدي.

جـ- الثقةُ المطلقَة في قوّة الله تعالى وقُدْرتِه وغَلَبتِه : لا أحَدَ في الدّنيا والكون كُلّه أكبَرُ من الله عز وجل علماً وحكمة وقدرةً وقوة، فمَن يحاربون دين الله تعالى هم يحاربون الله تعالى، ومن حارب الله عز وجل فهو محكومٌ عليه بالفشل والإفْلاس، فرداً كان أو جماعة، أو أمّة، أو دولة {سَيُهْزَمُ الجَمْعُ ويُولُّون الدُّبُر}(القمر : 45) هذه الثقة تجعل نظرة المؤمن إلى الكا فر المغرور بقوته ومَالِه وجَىْشِه وأتباعه  نِظْرة الحسْرة والأسَف والإشفاق على مصير هذا الجاهل السفيه الذي يسير في طريق الهلاك لنفسه وأتباعه من المعجَبين به {فخَرَج على قوْمِه في زِينَتِه قَالَ الذِين يُرِيدُون الحَيَاة الدّنيا يَا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أوتِي قَارُونُ إنّهُ لَذُوا حَظٍّ عَظِيمٍ وقال الذِين أُوتُوا العِلْم ويْلَكم ثوَابُ اللّه خَيْرٌ لِمَن آمن وعَمِل صالحاً ولا يُلَقّاهاَ إلاّ الصّابِرُون فخَسَفْنَا بِه وبِدَارِه الأرْض فَما كَان لَهُ مِن فِئَةٍ ينْصُرُونَه مِن دُون اللّه وما كان من المُنْتَصِرِين}(القصص : 81).

د- الثقةُ المطلقةُ في أحَقِّيّةِ الإسلام وأنّه الدّين الحقُّ : الصالحُ لإسعادِ الإنسان وضَمانِ حاضِره ومُسْتقْبَلِه، والصّالحُ لسياسة الدّنيا بالدين، والصالحُ للتعايُش الكريم مع مختلِفِ الأجناسِ والمِلَلِ، والصالحُ للتجانُسِ والتَواؤُم مع الكَوْن وكُلِّ ما بثَّهُ الله تعالى فيه من مخلوقات للإنسان العابد الشاكِر {وهُوَ الذِي جَعَلكُم خلاَئِف الأرض ورَفَع بعْضَكُم فوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ ليَبْلُوكُم فِي ما آتاكُم}(الأنعام : 167).

هـ- الثقةُ المطلقَة فِي مصَارِع الكفار والمعانِدين : بما أن دينَ اللّه الإسلام هو الحق، فالمعادلَةُ الرياضيّة الصارمَة تقول : من اتبعَه واهتدى بهدْيه كان من الفائزين، ومن حادَ عنْه وقاومَه وحاربَه كان من الخاسرين، هذه حقيقة يستهزِئُ بها الجاحدون، ويقولون للرسُل {فَاتِنا ِما تعِدُنا إنْ كُنْتَ منَ الصّادِقين}(الأعراف : 69) أما المؤمنون فليس عندَهم أدنى شك أو ارتياب في سوء عاقبة المجرمين المكذبين {إنّ الذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُون أمْوالَهُم لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللّه فسَيُنْفِقُونَها ثمّ تكونُ علَىْهِم حسْرةً ثمّ يُغْلَبُون}(الأنفال : 36).

هذا العلمُ الربانيّ الذي يقذِفُه نور الإيمان في قُلوب المؤمنين، ويحْجُبُه ظلام الكفر عن بصائر المجرمين هو الذي يجعَلُ المؤمنين -بفضل من الله ورحمة- يمشُون على بيّنةٍ من أمْر ربّهم، وأمْر حياتهم لا يبالون بالعقبات -مهما كانت- لأنهم مطمئنون تمام الاطمئنان إلى حُسْن العقبى في الحال والمآل.

—–

1- البخاري، مناقب الأنصار.

2- ابن ماجة، باب الصبر على البلاء، رقم الحديث 4023، وجاء في الصحيح : ((أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثلُ فالأمثل، يُبْتَلَى الرجُلُ على حسَب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيدَ له في البلاء)).

3- ابن هشام من السيرة الميسرة.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>