حرية المرأة بين مدارج الرسالة ومزالق الضلالة


الخطبة الأولى :

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا…

عباد الله : إن العبد ليكون في أمن ونعمة ما دام قريباً من الله تعالى، وأصل العلاقة به سبحانه ذاكراً شاكراً، مستحيياً متواضعاً.

فإذا قطع صلته بالله سبحانه، وابتعد عن حماه، ونسي نِعمه وذكر غيره، وصار وقحاً، جريئاً على المعاصي، مستهتراً بالحرمات الشرعية، رفع الله عز وجل عنه أمنه، ونزع منه نعمة الإيمان وحرمه بهاء الحياء، ونسيه، ونبذه لنفسه، وسلمه لشياطين الجن والإنس، يلهون به ويعبثون، من حيث يشعر أو لا يشعر {نسوا الله فنسيهم}(التوبة : 67).

ولنقف اليوم على مثالٍ واقعي لهذا الحكم الشرعيّ التاريخي المستمر.

لقد كانت المرأة العربية في غالب أحوالها قبل الإسلام ضيقة الفكر، مظلمةَ الروح مستعبدةً في بدنها، مغصوبةً من حقوقها المادية، ينظر إليها المجتمع الجاهلي نظرة الاستغلال والاحتقار، حتى إنها أحياناً تكون أرخص من بعض متاع البيت، والأدلة على هذه الأحوال كثيرة في الكتاب والسنة والشعر والتاريخ وغير ذلك بحيث لا ينكرها إلا جاهل أو معاند.

فلما جاء الإسلام، علّم المرأة ورباها كأخيها الرجل، وأفسح لها مجال الفكر في العالم المشاهَد والغيب، وأنار روحها بأنوار الوحي، وحرر بدنها من كل أنواع الرق والاستغلال الجاهلي، وأكرم نفسها، وعزز مكانتها الاجتماعية، وهداها إلى أبواب البر ومسالك الخيرات، فتعلمت وعلمت، واهتدت وهدت واستجابت لله ولرسوله ودعت غيرها إلى الله ورسوله، وشاركت في بناء الأمة الإسلامية، الذي هو الجهاد الدائم، وخاضت معارك الجهاد الموقت، وطلبت الجنة، ورغبت في الشهادة فأكرمها الله بها، وكانت أمّا حكيمة وزوجة صالحة وأختاً مؤمنة، وبنتاً بارة، وجارة مباركة.

فإذا نظرتم إلى أحوالها قبل الإسلام وجدتموها في دركات الذل، ومهاوي العار، وأغلال العبودية، لأنها كانت بعيدة عن الله، لا تنعم بعبادته، ولا تشعر بعزته وجلاله، ولا تطمع في أمنه ورعاية.

وإذا انتقلتم معها إلى عهد الإسلام الذي التزمته واعتزت به وتشربت دماؤها وخلاياها، حبّه وجدتموها ترقى في مدارج الرسالة، وتصعد منابر الهداية، وتتحرر من قيود الأرض، وتتمسك بحبل الله الذي يجذبها إلى أعلى، وهو الحبل الذي لا ينفصم، قال تعالى : {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم}(البقرة : 256).

وقد وُجِدَت أيام ضياع المرأة أعرافٌ وعادات وطقوس عربية وقوانين ونظم ومناهج أعجمية فما أنقذتها مما كانت تقاسي، وما فكت عنها قيود الاستعباد، ولا فتحت لها منافذ التحرر الفكري ولا الروحي ولا البدني ولا المالي، ولا هدتها إلى آفاق السمو الروحي لا في العالم المشاهَد ولا الغيي وإنما زادتها إغراقا في الضلالة والجهالة والمهانة، حتى رحمها الله عز وجل بنوره، وأحياها برحمته ورباها بكتابه وسنة رسوله، ووعدها بجنانه ورضوانه، قال تعالى : {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور، والذين كفروا أولياؤهم الطاغون يخرجونهم من النور إلى الظلمات، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}(البقرة : 257).

اللهم إنا نسألك الخير والبر والوقاية من البلاء والشر، لنساء المسلمين وبناتهم،  آمين والحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية :

الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه والصلاة والسلام على نبي الرحمة والهدى وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار.

وبعد : قال بعض أهل العلم : إن الاستهانة بكشف العورات المعنوية يؤدي إلى الاستهانة بكشف العوارات الحسية، يعني أن الذنوب والمعاصي عوراتٌ معنوية، فإذا كان المذنب والعاصي يستَتِر عند اقترفه الآثام، واجتراحه المنكرات، فإن فيه بقية خير وحياء تمنعه من إعلانها، والمجاهرة بها، وارتكابها أمام المشاهدين أو السامعين، لكنه إذا استهان بجرمه، وصغر في نفسه، أو لم ير في ذلك بأسا أن يقوم به علانية وأمام الخلق، فإن ذلك يدل  على أنه خلعَ ربقة الحياء، ونزع رداء الإسلام، ولم ير الفضيحة فضيحة، وإنما رآها جرأة وشجاعة، وتحرراً وحداثة.

ومثال هذا : صنف من نساء هذا العصر، اللآتي تخطين الأعراف والعادات، وانخرطن مع الرجال في كل شيء، واختلطن بهم في كل مجال، بدعوى أن المرأة ليست عاجزة عما يقوم به الرجال، وشاركت في مختلف الأعمال خارج البيت، بدعوى أن مهمة البيت لا اعتبار لها، وأنها لا تجلب مالا، ولا تسهم في تنمية الوطن، وإنما هي عبارة عن حمل وتبييض وتفريخ كالدجاج، وعن استعباد واحتقار لشخصية المرأة التي قد تحسن مالا يحسنه الرجل، هكذا نُفِث في روعها، وهكذا أخرِجت لتمارس -كما يقال لها- نشاطَها وحداثتها وحيويتها في كل الآفاق، وساندتها القوانين، وعُدِّلت التشريعات الفقهية من أجلها، فتعلمت على يد شيوخ الضلال، وأساتذة الإلحاد، ومدرسي الفتنة وتربت على يد معلمي العهارة والفجور، فاقتحمت مزالق الشهرة والبطولة، والإعلام اليهودي يشجعها ويصورها، ويقدمها هدايا للذئاب، وخلعت لباس الوقار فأخذت تسخر من رموز الإيمان، وتهتك أستار الحياء، وتدعو صويحباتها إلى الانطلاق من الماضي كله وتمزيق قيود التكليف، وتبدل بها الحال إلى انتقاد نصوص الوحي، والاعتراض على العلماء، وأخيراً أعلنت عن حقيقتها وهي أنها لا تؤمن بوصاية سماوية على الناس في الأرض، فالناس للناس، والديموقراطية حكم الشعب بالشعب، وليتخل الإله عن حفظ أهل الأرض، فإنهم قادرون على تسيير شؤونهم بأنفسهم.

فتدبروا أيها العقلاء والعاقلات -رحمكم الله- تدبروا هذه المراحل من التطور والتغير الذي استهوى بعض النساء في العالم الإسلامي، فانجذبن إليه بسرعة غير متريثات ولا متحريات.

ألا ترون أنه ابتعاد تدريجي عن رحاب الله تعالى، واندفاع نحو الشهوات والشهرة والمال، لاشك أنكم تعلمون من يدير حركة جر السفينة المزيّنة، التي ركبتها المرأة الحداثية العصرية. ولا ريب أنكم تعرفون على أي شاطئ ترسو سفن الشهوة والشهرة والمال، ومن يستفيد من حمولتها، أفلا تحكمون أن هذا الصنف من النساء يعود إلى الرّقِّية الفكرية والمالية وا%