مفهوم الصدق وسبل التخلق به


د. عبدالقادر منداد

الصدق في اللغة

الصدق من صدق يصدُق -بضم الدال- صِدقاً، يقال: صدق في الحديث وصدَّقه الحديث وتصادقا في الحديث والمودة. ويقال: صَدَقْتُ القوم: أي قلت لهم صدقا. وصدَّقته بتثقيل الدال: نسبته إلى الصدق، وصدَّقتُه قلت له: صدَقْتَ.

قال ابن فارس: الصاد والدال والقاف أصل يدل على قوة الشيء قولا وغيره، ومن ذلك الصدق، خلاف الكذب سمي بذلك لقوته في نفسه ولأن الكذب لا قوة له فهوباطل. وأصل هذه التسمية من قولهم : شيء صَدْقٌ أي صلب … والصديق الملازم للصدق(1).

من خلال هذه الأقوال اللغوية وانطلاقا من المعطيات المعجمية يمكن القول: إن للصدق معنيين :

الأول هو: أن الصدق ضد الكذب.

الثاني بمعنى: الشجاعة والصلابة. ويشهد لهذا المعنى قول كعب بن زهير في أحد أبياته :

وفي الحلم إدْهَانٌ وفي العفودُرْسَةٌ

وفي الصدق منجاة من الشر فاصْدُقِ.

فكعب بن زهير في عجُز هذا البيت يحث محاربا على التمسك بالصدق في حربه لعدوه إن هوأراد أن ينتصر عليه وإلا فإن عدوه سيتمكن منه فيقضي عليه.

في القرآن الكريم

أما في القرآن الكريم فالصدق يكون في أشياء منها :

- لسان الصدق: مصداقا لما أخبر به سبحانه عن أنبيائه عليهم السلام، حيث قال: {وجعلنا لهم لسان صدق عليا}(مريم : 50) أي ثناء الناس عليهم الثناء الحسن والافتخار بهم، لأنهم المبلغون عن الله الحاملون لرسالاته. كما أخبر سبحانه عن خليله إبراهيم عليه السلام أنه سأله أن يجعل له لسان صدق في الآخرين، فقال: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين}(الشعراء: 84) أي الثناء الحسن والذكر الصادق في جميع الأمر إلى يوم القيامة.

- مُدخل صدق ومُخرج الصدق: مصداقا لما أمر به سبحانه رسوله أن يجعل له مُدخله ومُخرجه على الصدق، فقال: {وقل رب أدخلني مُدخل صدق وأخرجني مُخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا}(الإسراء: 80)  أي الإدخال والإخراج المرضيين اللذين لا يرى فيهما ما يُكره.

- قدم الصدق ومقعد الصدق: مصداقا لما بشر به عباده سبحانه أن لهم قدم صدق ومقعد صدق، فقال: {وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم}(يونس: 2) أي سابقة ومنزلة رفيعة. أما مقعد الصدق فيدل عليه قوله تعالى: {إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق}(القمر: 54) أي المكان المرضي الذي يليق بمقام المتقين، وهوالجنة كما يظهر من خلال الآية.

فحقيقة الصدق في هذه الأشياء الخمسة هي أنه: حق ثابت متصل بالله وموصل إليه،  وهوما كان به وله من الأعمال وجزاء ذلك في الدنيا والآخرة. كما أثنى الله عز وجل على الصادقين بأحسن أعمالهم من الإيمان والصدقة وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والإيفاء بالعهد والصبر عند الشدائد، فقال: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيئين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولائك الذين صدقوا وأولائك هم المتقون( البقرة: 176).

فهذه الآية صريحة في أن الصدق يكون بالأعمال الظاهرة والباطنة وأن الصدق هومقام الإيمان والإسلام. فالصدق أساسه الإيمان، والنفاق أساسه الكذب، ومن ثم فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما يحارب الآخر. وفيها أن الصدق مرتبط بأربعة مجالات، هي : العقيدة، العبادات، المعاملات والأخلاق< فالمجال الأول هوالمشار إليه بالإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيئين والثاني هوالمتعلق بالصلاة والزكاة وإيتاء المال ذوي القربى وباقي الفئات المذكورة في الآية والثالث هوالمعبر عنه بالإيفاء بالعهد أما الرابع فهوالمشار إليه بالصبر عند الشدائد ونزول المصائب. فاعتمادا على الصدق قسم الله سبحانه الناس إلى صادقين ومنافقين، فقال: {ليجزي الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أويتوب عليهم}(الأحزاب: 24) كما أخبر سبحانه أن جزاء الصادقين يوم القيامة هوالجنة، فلا ينفع العبد ولا ينجيه من عذاب الله إلا صدقه: {قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم}(المائدة: 121)، وقوله تعالى: {ليسأل الصادقين عن صدقهم}(الأحزاب: 8) أي يسأل من صدق بلسانه عن صدق فعله، لأنه لا يكفي الاعتراف بالحق دون تحريه بالفعل. وقوله: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق}(الفتح: 2) المراد بالصدق هنا هوأنه صدق واقع بالفعل ومحقق لا محالة< أي حقق رؤيته.

أما قوله تعالى: {رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه}(الأحزاب: 23) أي حققوا العهد الذي أبرموه مع الله بما أظهروه من أفعالهم وجهادهم لأعدائهم.

إجمالا وبعد هذا يمكن القول: إن الصدق ثلاثة أنواع وثلاث درجات.

أما الأنواع فهي أن الصدق يكون في القول والعمل والحال.

فالصدق في الأقوال: استواء اللسان على الأقوال بضبط الكلام ودقة أدائه كاستواء السنبلة على ساقها، بحيث يكون الكلام في غاية من التركيب والتنظيم فيتلقاه السامع وهومطمئن إليه فيجد فيه راحته.

والصدق في الأعمال: استواء الأفعال على الأمر والمتابعة كاستواء الرأس على الجسد، وذلك بأن يكون عمل الإنسان وفق ما أمر به الله ورسوله مع الاستمرار على ذلك في الزمان والمكان حتى يتسم عمل الإنسان بالاطراد دون أن يغير أويبدل.

أما الصدق في الأحوال: فيعني استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص واستفراغ الوسع وبذل الطاقة حتى يكون العبد من الصادقين.

لكن هل إذا تحققت هذه الأنواع في الإنسان يمكن أن يدعي أنه صادق؟ أويقال له : إنك صادق؟ فالذي يظهر – والله أعلم – أنه لابد من اختبار لمعرفة حقيقة هذا الصدق، هل هوحقيقي أم زائف؟ هذا الاختبار وهذا الامتحان هوالمعبر عنه بقوله تعالى: {ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين}(العنكبوت: 1- 2)، إذا لابد من الابتلاء لكي يعرف الصادق من الكاذب، فالله سبحانه وتعالى: {خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا}(الملك : 2) فالابتلاء قد يكون بالخير وقد يكون بعكسه أي بالشر {ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون}(الأنبياء: 35)  فعندما ينجح الإنسان في اجتياز الابتلاء إذ ذلك يمكن أن نقول: إنه صادق، أوإنه على قدر من الصدق.

أما درجات الصدق فأولها:

- صدق الصدق: أي أن يكون الصدق في منتهاه أي هو هو دون أن يعتريه نقص أوتشوبه شائبة، فالصدق الصادق هوالذي يمكن العبد من أن يكون مع الصديقين.

- تمنى العبد الحياة بحق وصدق مع بذل الجهد في ذلك.

- الصدق في معرفة الصدق: يعني أن الصدق الحق إنما يحصل لمن صدق في معرفة الصدق أي لا يحصل حال للصادق إلا بعد معرفة الصدق، ولا يستقيم الصدق إلا باتفاق رضى الحق بعمل العبد وحاله ووقته وإيقانه وقصده.

من علامات الصدق ومظاهره

من علامات الصدق طمأنينة القلب إليه ومن علامات الكذب حصول الريبة، فقد جاء في سنن الترمذي حديث مرفوع إلى النبي ، يقول فيه : >دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة<(2) أي دع الفعل الذي فيه شك وافعل آخر ليس فيه شك.

وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر أن النبي  قال: >إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدُق حتى يكتب عند الله صديقا. وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا<(3).

فالنبي  جعل الصدق مرشدا وهاديا إلى البر وجعل البر دالا وهاديا إلى الجنة كما جعل الصدق موصلا إلى الصديقية، فهومفتاحها ومنطلقها ومبدؤها وهي غايته، فلا ينال درجتها كاذب البتة. فالصديق: الرجل الكثير الصدق، أومن لم يصدر منه الكذب قط. قال تعالى في حق إبراهيم عليه السلام: {واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيئا}(مريم: 40-41)، وقال في حق مريم عليها وعلى عيسى السلام: {وأمه صديقة}(المائدة: 77). فالصديقية شبيهة بالمحبة، جاء في الحديث القدسي المشهور، المروي عن أبي هريرة ] قال : قال رسول الله  إن الله قال: >من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولإن سألني لأعطينه ولإن استعاذ ني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته<(4) فالتقرب إلى الله يكون بما فرض على عباده من الفرائض ويكون بالنوافل التي هي محبوبة عند الله، فإذا أدام العبد على هذه الأشياء واستمر عليها فإنه يترقى في درجات المحبة إلى أن تكتب له محبة الله. فكذلك الصدق…

فالصديقون إذن درجتهم ثانية بعد الأنبياء، فهم من المنعم عليهم مع النبيئين والشهداء والصالحين ولهم مزية المعية مع الله ومنزلة القرب منه، قال تعالى: {ومن يطع الله والرسول فأولائك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولائك رفيقا}(النساء: 68).

مظاهر الصدق

منها الإخلاص لله سبحانه وتعالى، لأن الإخلاص شرط من شروط قبول الأعمال فلا يكون العبد صادقا إلا إذا توجه بعمله إلى الله دون إشراك لأحد ودون وجود لأية شائبة في قلبه تعكر صفاء عمله وخلوصه لله.

بعد كل هذا يمكن أن نعرف الصدق فنقول:

إن الصدق هو: حصول الشيء وتمامه وكمال قوته واجتماع أجزائه، كما يقال: نية صادقة ومحبة صادقة وإرادة صادقة وعزيمة صادقة : إذا كانت قوية تامة. وحلاوة صادقة: إذا كانت قوية تامة ثابتة على الحقيقة لم ينقص منها شيء. كما يعبر عن كل فعل فاضل ظاهرا كان أوباطنا بالصدق.

وقد يستعمل الصدق والكذب في كل ما يحق ويحصل في الاعتقاد: نحوصدق ظني وكذب، ويستعملان في أفعال الجوارح فيقال: صدق في القتال: إذا وفى حقه وفعل ما يجب عليه كما يجب، وكذب في القتال: إذا كان بخلاف ذلك.

وبعبارة أخرى “إن الصدق يعني: تطابق ما في قلب الإنسان وما ينطق به لسانه مع ما في جوارحه أخذا بعين الاعتبار مطابقة كل ذلك للحق لواقع الأمر كما هوعند الله عز وجل. وإذا لم يكن هناك تطابق بين هذه الأشياء الثلاثة فمعنى هذا أن هناك خلل ما ينبغي إصلاحه حتى تكون عبادة الإنسان خالصة وصادقة لله وحده”.

سبل التخلق بالصدق

فحسب اطلاعي ومعرفتي، يمكن ذكر سبيلين كبيرين:

الأول: بذل الجهد في التخلق بالصدق: وهذا لا يحصل ولا يتم إلا بالتأسي بالصدِّيقين والصادقين من الأنبياء والصالحين من السلف الصالح وبمن سار على دربهم ونهجهم.

الثاني: صحبة ومرافقة الصادقين، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}(التوبة : 120) فالمعية تقتضي المخالطة وتقتضي المجالسة، وفيهما يكون الأخذ والعطاء والتأثير والتأثر، مما يجعل انتقال الأشياء من فضائل وصفات حميدة أمراً طبيعياً. فالمرء مع من أحب >والمرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل<.

من أقوال السلف عن الصدق

قال الجنيد رحمه الله: الصادق يتقلب في اليوم أربعين مرة، والمرائي يثبت على حالة واحدة أربعين سنة.

وقال أيضا: حقيقة الصدق أن تصدق في مواطن لا ينجيك منها إلا الكذب.

وقال بعضهم: من لم يؤد الفرض الدائم لا يقبل منه الفرض المؤقت، قيل : وما الفرض الدائم؟ قال: الصدق.

وقال بعضهم أيضا: لم يشم روائح الصدق من داهن نفسه أوغيره.

وقال آخر: الصادق لا يرى إلا في فرض يؤديه أوفضل يعمل فيه.

وقيل: عليك بالصدق حيث تخاف أنه يضرك، ودع الكذب حيث تراه أنه ينفعك، فإنه لا ينفعك.

وقال أحدهم: الصدق اسم لحقيقة الشيء حصولا ووجودا.

—————–

1-  انظر : مقاييس اللغة، بــاب الصاد والـدال ومـا يثلثهما.

2-  أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث رقم: 2518. ولم يسم الباب.

3-  أخرجه البخاري في كتاب الأدب باب قول الله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين( وما ينهى عن الكذب، حديث رقم: 5743. ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله، حديث رقم: 2607.

4-  أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب التواضع، حديث رقم : 6137.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>