الافتتاحية – {إنْ يَـقُـولُـونَ إلاَّ كَـذِبـاً}(الكهف : 5)


إن العِلْمَ بالله عز وجل أشْرفُ العُلوم وأزْكاها وأفضلُها على الإطلاق :

1) لأن العلم بالله تعالى مفتاح كل العلوم الدنيويّة والأخروية، المحسوسة والغيبيّة، المادية والروحية..

2) لأن العلم بالله تعالى مفتاح التعبُّد الخالص، والتعبد الخالص مفتاح كل خير وسعادة للإنسان.

3) لأن العلم بالله عز وجل مفتاح للهُدَى واستقامة البشرية على الصراط السويِّ في كل مجالات الحياة بدون زَوَعَان أو رَوَغَانِ.

والبشر -بحُكْم قُصُوره العقلي والعلمي والإدراكيِّ- لا يستطيع معرفة الله عز وجل معرفةً حقيقيةً بدون رُسُلٍ يُرْسِلُهم الله تعالى مُزَوَّدين بالوَحْي، ولذلك كانت سُنَّةُ الله تعالى في كوْنِه وخلْقه إرسالَ الرسُل لكل مجموعة بشريَّة تكوَّنت في أي قُطر من أقطار الأرض، تُعَرِّفُهُم بالله تعالى، وحِكْمة خلْقه للكون، وخَلْقِه للإنسان، وما واجبُ الإنسان أمامَ ربّه وخالقه، وأمامَ كوْنِه المحيط به، وأمامَ أخيه الإنسان المتعايش معه.

وإذ كان الرسُل كُلُّهم مؤتمنين على تبليغ كلِّ الحقائق الكُبْرى المتعلقة بواجباتهم للناس المرْسَلين إليهم، فإن خاتِمَهُم محمداً  قدْ أُؤتُمِنَ على تبليغ الرسالة للناس كافة، وإذا كان محمد  انتقل إلى الرفيق الأعْلَى فإن أمَّتَه بقيتْ مُؤتمنةً على الرسالة التي بُعث بها محمد ، فهي مؤتمنةٌ عليها إلى يوم القيامة.

لأنها أمة :

1- ورِثَتْ العِلْمَ الصحيحَ عن الله عز وجلَّ بالسَّنَدِ العالي عن محمد ، عن جبريل عليه السلام، عن ربِّ العِزَّة جلّ جلالُه.

2- ورِثَتْ الكِتابَ الذي لا يأتيه الباطلُ من بيه يديْه ولا من خلفه، ففي كتابها الحَقُّ الذي أنْزلَهُ الله تعالى للبشر جميعا وأرسل به الرسُلَ جميعا.

3- ورِثت الشَّرْع الصحيح الشامِلَ الكامِلَ الذي لا يحتاج إلى ترقيع مِن أهواء البشر وقوانينه خارج عن إطاره.

4- ورثتْ المنهَجَ الصافي الكفيلَ بمصالح العباد في الدنيا والآخرة.

5- و رثتْ الأخلاق السامية العالية الكفيلةَ بتحقيق الاستخلاف على الأرض، وتحقيق العدالة التي بُعث بها الرسُلُ، وتحقيق الأمْن النفسي، والاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي، والروحي.

هذه المزايا كُلُّها كفيلة بأن تُبَوِّئَ الأمَّة الإسلامية مقْعَدَ الإِمَامَة، ومقْعَدَ الأستاذيَّة لتوجيه البشر المحروم من هذه المزايا، وخصوصاً في عصْر العوْلمة الإلحادية، وعَصْر الطغيان المادِّي، وعصْر الحُمْق السياسي، وعصْر إخْضاع الناس لحَقِّ القوَّة العمياء التي بدأتْ تفْرِضُ على الناسِ جاهليَّة مُتَقنِّعةً بشعارات جوفاءَ لا تستقيم مع الفطرة السليمة والعقل الرشيد.

كان المفروض ذلك ولكن :

1) عندما فَرَضَ المستعمر على الشعوب هجران قرآنها، وجَعَل التعليم المدَني المفروض عليها لا رائحة للدِّين فيه، ولا رائحة فيه لأصول الشعوب الإسلامية، ولا رائحة فيه لتاريخها وأدبها، وتراثها، وما اكتشفته من علوم حضارية فريدة.

2) عندما تخلَّتْ الشعوب الإسلامية عن رسالتها طائعة لتوجيهات المستعمر، راضية بالتوجُّه الدنيوي الخالص.

3) وعندما تخلَّت الدُّول الإسلامية عن إعْدادِ العلماء الدُّعاة إعداداً نابعا من الأصالة والمعاصرة.

4) وعندما بدأت النظم المتحكمة في الشعوب الإسلامية تحارب الدّعوة للإسلام، وتضيق عليها الخناق في كل مجال، في الوقت الذي تشجع -بدون تحفُّظ- دعاة الزندقة والالحاد.

5) وعندما بدأت الدول المسلمة تُوَالِي الكفر والكافرين وتتعاونُ معهم محليا وعالميا لتجفيف المنابع الإسلامية، والتطويح برموزها ومؤسساتها ومكتباتها، وتشويه سُمْعَتِها.

في هذا الوقت بالذات نَزَع الله عز وجل من الأُمَّة المتخلِّية عن رسالتها ووظيفتها الإمَامَة، أي الإمامة في الدِّين، والإمامة في العلم، والإمامة في الأخلاق، والإمامة في الهداية، والإمامة في العَدْل، والإمامة في الأمْن، والإمامة في القوة السياسية، والإمامة في السلام الداخلي والخارجي… الإمامة في كل شيء…

وعندما فرَغ منْصِبُ الإمامة الهادية، وأصبح شاغِراً، اقْتَعد الكُفْرُ هذا المنصبَ وأصْبح الكُفْرُ من خلاله يتحكَّم، ويُوجّه الناس عالميا لِكَيْ يفرض عليهم هيْمَنَتَهُ وحضارته، رَضُوا أم كَرِهُوا، فالقوة الحديديّة مِن ورائهم، والقوة المالية من أمَامِهم، والقوّة الفكرية الخادعة البراقة فوق رؤوسهم وعقولهم.

إن فراغَ منصِب الإمامة الهادية جريمةٌ كبيرةٌ شَارَكَ في نسْج خيوطها دُهاةُ الكفر والنفاق، وعُتاةُ الفسق والفجور. وسماسرة العُهْر السياسي والفكري من أبناء جلدتنا.

وأجْرمُ من هذه الجريمة أن يُصْبح المسلمون كبارُهم وصغارُهم يتلقَّوْن الدُّروس والتوجيهات من كبار المَكَرة والمجرمين الذين بَرَعُوا أيَّما برَاعةٍ في الصدِّ عن دين الله وتشويه أتباعه. مع أن الله عز وجل نهى المسلمين نهياً قاطعاً عن  اتباع سُبُل الكافرين المجرمين، في عدة آيات، منها :

- {يَا أيُّها الذِين آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الكَافِرين أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُومِنِين}(النساء : 143).

- {يا أيُّها الذين آمَنُوا لا تتخذُوا اليهودَ والنّصارى أولياء}(المائدة : 53)

- {لا تَجِدُ قوْماً يُومِنُون باللَّهِ واليومِ الآخِر يُوَادُّون من حَادَّ اللّه ورسُولَهُ ولوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أوْ أبْنَاءَهُم أو إخْوانَهم أو عَشِيرَتَهُم}(المجادلة : 21).

- {يا أيُّها الذين آمَنُوا لا تتّخِذُوا عَدُوِّى وعدُوّكُم أوْلِياء}(الممتحنة : 1).

بلْ وأكثرُ من ذلك بيّن لنا القرآن نواياهم وطواياهم ومُضْمرَاتِ حِقْدِهم، فقال لنا :

- {كيـف وإِنْ يَظْهُرو عَلَيْكُـم لا يـرْقُبُوا فِيكُـم إلاًّ ولا ذِمَّةً}(التوبة : 8).

- {إنْ يَظْهَرُوا عليْكُم يرْجُمُوكُم أو يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِم ولنْ تُفْلِحُوا إذاً أبداً}(الكهف : 20).

ففي أيِّ شرعٍ وجَدَ كبارُ قومِنا أنّ مِلَّة الكُفْر تَزَكَّى أصحابُها وأصبحوا بررةً أطْهاراً لا يقولون إلا خيراً، ولا يضمرون إلا خيْراً، ولا يسْعَوْن إلا إلى خير، ومجلسُ أمْنِهم لا يهتم إلا بنشْر الخير والسلام في العالم!! ألَمْ يشْبَعْ العالم الإسلامي من بركاتِه وخيراتِه في أفغانستان، والعراق، والصومال، والسودان؟! وفلسطين قبل ذلك بعقود ألم تغْرق في خيراته وبركاته؟!

ماذا دَهَى كبار قومنا حتى أصبحوا يثِقُون بالكفر الذي لا عهد له ولا ذمة، ويظنُّون ظن السّوْءِ بالله تعالى الذي لا يُخْلِفُ الميعاد أبداً؟! أغرَّتْهم المجاملاتُ الصفراءُ الخادعة التي ليس وراءها إلا الشرُّ الأحْمَرُ والأغْبَر؟! أم يخافُون أن تدور عليهم الدَّوائر كما دارتْ على الكثير من المستبدين المتألِّهين منذ بدْءِ التاريخ الإنساني؟!

إن الله تعالى قال : {يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وتَابَى قُلُوبُهُمْ وأكْثَرُهُمْ فَاسِقُون}(التوبة : 8)، وما يُرَى من تضْييع الوقْت، وتضْييع الأعمار والسنين في المفاوضات التي لا تتعدَّى مضْغَ الكلام، وتسويد الملفات والأوراق بدون نتائج خَيْرُ دليل على أنهم يحلُّون مشاكلَ العالم الإسلامي بالكلام المُمَطَّط، والأماني العِذاب التي لا يمكن أن تخرج إلى حَيِّز التّطبيق أبداً. صدق الله، وكذب الكفر والكافرون.

أما الذين يتترّسون بالكفر احتياطاً للدَّوائر، فقد قال الله تعالى لهم : {فعَسَى اللَّهُ أنْ يَاتِيَ بالفَتْحِ أو أمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا علَى ما أسَرُّوا في أنْفُسِهِم نَادِمِين}(المائدة : 45).

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>