من أساسيات المنهج الحضاري  عند مالك بن نبي


(وحدة تحليل مشكلات الإنسان من “الحضارة” إلى “الحضارة العالمية”)

أ.د. عبد العزيز برغوث

الجامعة الإسلامية العالمية ماليزيا

أولا: الإطار النظري لدراسة وحدة التحليل في المنهج الحضاري البنبي

في مفهوم وحدة التحليل وضرورتها في المنهج الحضاري عند بن نبي

إن أول قضية من قضايا التجديد الحضاري في عصر العالمية والكونية هي قضية الوحدة التحليلية(1) التي تصلح لتكون إطارا منهجيا نحلل ضمنه مسائل التجديد والتحضر والاجتماع الإنساني والتاريخ عموما. وتعد هذه القضية من أكبر وأخطر المداخل التي تحتاج إلى دراسة وتحديد لأن أي خطأ في اختيار المنظور والإطار الذي نحلل فيه إطاره قضايا الأمة والعالم سيؤدي إلى مشكلات خطيرة في المنهج والتخطيط والفعل والممارسة. والمقصود بصورة عامة بوحدة التحليل ذلك الإطار النظري العام بكل مفرداته وقواعده ومبادئه وضوابطه ومفاهيمه والذي نستخدمه من أجل معالجة الاشكالات والتساؤلات التي تطرح علينا في سياق البحث في قضايا التجديد، والمجتمع، والإنسان، والحضارة وغيرها. فمثلا كما هو معلوم عند المتخصصين أن وحدة التحليل الاجتماعي والتاريخي التي استخدمها ابن خلدون(2) في دراسته لحركة المجتمع والحضارة والعمران البشري هي “الدولة”(3) باعتبارها إطارا تحليليا ناقش ضمنه هذا العبقري(4) كثيرا من قوانين العمران ومبادئ الاجتماع الإنساني، وسنن الحركة الاجتماعية والتاريخية. “فقد رأى ابن خلدون أن التاريخ عبارة عن سلسلة من الدول تسير كل منها في حلقات متتابعة، وتتشابه هذه الدول في مراحلها المختلفة، وفي أعمارهم وتقوم الواحدة على أنقاض الأخرى وهكذا.”(5) وقد استطاع ذلك العلامة أن يدلنا على كثير من قوانين الاجتماع البشري على الرغم من تركيز إطاره التحليلي أو وحدته التحليلية المنهجية على مسألة الدولة كما يرى بعض العلماء ومنهم مالك بن نبي(6) كما سيأتي توضيحه. ثم أتى مفكرون ومنظرون آخرون نظروا إلى وحدة التحليل هذه في نطاق أوسع وأشمل من قضية الدولة وإطارها التحليلي ومفرداتها وأدواتها التحليلية. فتحدث مثلا في إطار التصور الإسلامي مالك بن نبي رحمه الله، وتحدث تويمبي(7) في سياق التصور المسيحي الغربي عن “الحضارة”(8) كوحدة لتحليل التاريخ وحركة المجتمعات، وكإطار أشمل وأوسع لدراسة قوانين العمران وسنن الفعل الحضاري وتطور المجتمعات. وهنا أصبحت الحضارة بمفرداتها، ومفاهيمها، ونظرياتها، وأدواتها، ومناهجها، وأساليبها، ووسائلها، وأسسها إطارا تحليليا علميا منهجيا لدراسة قضايا التاريخ والثقافة والاجتماع والإنسان والعمران والمدنية وغيرها.

التحول النوعي في الوعي الحضاري المعاصر: من الحضارة إلى الحضارة العالمية

ومع التطورات المشهودة في الوعي والفكر والمناهج والمعارف والتقنيات والوسائل والتنظيم والإدارة بدأت تظهر وحدة جديدة للتحليل لها أهميتها القصوى في دراسة الوعي والتاريخ والحضارة والاجتماع البشري في عصر العولمة والكونية والاتصال الشمولي للبشرية. وكان من أوائل الذين تحدثوا عن هذه القضية بوعي سواء في إطار الفكر الإسلامي أو ربما في إطار الفكر الإنساني عامة هو المرحوم مالك بن نبي. وعلى الرغم من أهمية هذه المسألة إلا أن كثيرا من دُراسه(9) لم يتفطنوا إلى هذا الأمر الخطير والمهم للغاية في تحليل ودراسة قضايا الحضارة والثقافة والاجتماع البشري في عصر العالمية. والذي نراه في الأدبيات والكتابات الصادرة(10) حول فكره هو التركيز على الحضارة كوحدة للتحليل عند هذا المفكر. فصحيح أن هذه الوحدة للتحليل لها ثقل خاص في كل أطروحاته، حيث نجد كثيرا من أفكاره تدور حول هذه الوحدة التحليلية، ولكن إغفال البعض وعي بن نبي على الوحدة الجديدة للتحليل قد يُبقي فكره ومشروعه حبيس إطار التحليل الحضاري المعهود، ويخفي عليهم كثيرا من الملامح والأبعاد المشرقة والعالمية في فكره. فابن نبي يعد بحق من الأوائل الذين انتبهوا بعمق ووعي إلى مفهوم “الحضارة العالمية” كوحدة جديدة للتحليل الحضاري والتاريخي والاجتماعي. وما يعرف اليوم بقضية العولمة-في أحد أبعادها- وتأثيراتها على مناهج البحث الاجتماعي والإنساني ما هي إلا أثر بسيط من أثار العالمية، وتجلي أولي من تجلياتها التي ستتلاحق كلما أمتد وعي البشرية في مستقبل الحضارة وإنجازاتها الجبارة والنوعية.

فمالك رحمه الله في إطاره التحليلي يعتبر مفهوم “الحضارة العالمية”(11) مفهوما أساسيا في دراسة قضايا التجديد الحضاري للأمة وللبشرية جميعا. فدراسة التاريخ، والحضارة، والاجتماع البشري عنده ينبغي أن تكون ضمن إطار وحدة  “الحضارة العالمية” ومفاهيمها، ومفرداتها، وأدواتها التحليلية الجديدة. وعلى الرغم من أن مالكا في بدايات فكره قد نظر لمسائل الحضارة الإسلامية، والحضارة المسيحية، والحضارة الهندية والبوذية من منظور “الحضارة ذاتها كوحدة للتحليل” إلا أنه لم يغب(12) مطلقا عن وعيه أن إطارا جديدا للتحليل بدأ يتشكل في وعي البشرية هو “الحضارة العالمية” كوحدة تحليلية جديدة؛ تقوم بتوسيع وعينا وتوسيع رؤيتنا ورفع أفقنا إلى القضايا العالمية الكبرى؛ بحيث يصبح نظرنا إلى قوانين الحضارة، والتاريخ، والإنسان، والثقافة، والمجتمع، والعمران ليس فقط من منظور الدولة، وليس فقط من منظور الحضارة، ولكن كذلك من منظور “الحضارة العالمية” التي توسع أفق الوعي، وأفق الفهم، وأفق المنهج، وأفق المصطلحات، وأفق الأفكار، وأفق التطبيقات الحضارية، وأفق منجزات الحضارة وثمارها، وأفق التشريع والقانون والتربية والعلاقات الدولية والاجتماعية، وأفق الاقتصاد، وأفق السياسة، وأفق الحياة ذاتها. إن مالكا يرى أن تحولات القرن العشرين ساهمت في إحداث تحويل نوعي في وعينا ورؤيتنا إلى قضايا الحضارة والعالم. إن هذا التحول النوعي الكبير أدى إلى “إنشاء بصورة ما مجالا ثالثا، هو المجال الذي يتحتم فيه على كل ثقافة أدركت حقيقة مشكلاتها الداخلية والاتصالية، أن تدرك حقيقة مشكلات أخرى على مستوى عالمي”(13).

ثانيا: المنهج الحضاري عند بن نبي والتنظير لمفهوم الحضارة العالمية كوحدة للتحليل

ولكي نتبين هذا المنحى عند بن نبي سنعمد إلى تثبيت بعض النصوص من كتاباته ومؤلفاته والتي ستساعدنا على استجلاء هذا التوجه في تفكيره. ونحن نعتبر هذه النصوص والأفكار بمثابة التنظير الأولي لبناء هذه الوحدة الجديدة في التحليل الحضاري والتاريخي على الرغم من عدم تصريحه بها بصورة واضحة. يقول بن نبي في تأملاته حول المنطق العالمي(14) الجديد للحضارة الإنسانية: “لقد كانت الحضارة من عمل اللاشعور عند الفرد، وهو العمل الذي يجند وعيه الموضوعي بصفة استثنائية، عند بعض المؤرخين وعلماء الاجتماع مثل ابن خلدون، أعني عند الخصيص الذي جعل من الحضارة موضوعا للدراسة، ومشكلة للتجلية والإيضاح. ولكن الحضارة قد أصبحت مع الثقافة الغربية هدفا مقصودا، وعملا شعوريا وفنا ووظيفة اجتماعية للإنسان تتطلب ذكاءه وإرادته، وهو يرى فيها غايته الأرضية. هذه الذاتية الجديدة قد وسعت أولا حقل الحضارة نفسها، حين مدته من النطاق القومي والعنصري إلى النطاق العالمي الإنساني. ولكن الغرب حين حقق امتداد الحضارة في المكان بفضل قوته الصناعية قد أحدث تحولا في طبيعتها التاريخية. فلم تعد الحضارة فيما يبدو خاضعة لقانون (الدورات) كما كانت في عصر ابن خلدون، وأيضا في عصر سبنجلر عندما كان يكتب عن أفول الغرب. ولو رجعنا في ضوء التطورات الأخيرة، رأي (فاليري) في الوقت الذي كان يتأمل النتائج المتوقعة للحرب العالمية الأولى، حين عبر عنها في تلك الصورة المأثورة: ( الآن أدركنا نحن أن الحضارات فانيات…) لو راجعنا رأي فاليري اليوم لوجدناه قد أخطئ، إذ في ذلك الوقت لم تعد الحضارة لتكون فانية لأن نطاقها قد بدلها خلقا آخر، فأصبحت عالمية، وبذلك صارت خالدة. ومع ذلك ففي الوقت الذي أراد فيه جون أرنولد تويمبي أن يختم كتابه الرائع: (دراسة التاريخ) كانت ظاهرة (الدورات) لا تزال ذات وزن في استنتاجاته، ففي استنتاجه عن مستقبل الحضارة الغربية لم يكن عقله بوصفه مؤرخا على وفاق مع ضميره بوصفه إنسانا غربيا. فقد كان المؤرخ مأخوذا فيما يبدو بفكرة الأفول. ولكن الإنسان يتجاوز هذا الخوف حين يصوغ للحضارة الغربية أمنية في ألا تغرق بدورها في محاولة (إنقاذ بالسيف) وهي محاولة قد تنتج عن غريزة الدفاع عن النفس. فهو يتمنى أن تصل إلى نظام عالمي…وإذا كانت أمنية الإنسان تذهب إلى هذا المدى البعيد، فذلك لأن المؤرخالكبير يرى في منعطف التاريخ الحالي أو يستشعر التحول الذي يجتاز بالإنسانية المرحلة الثانية من تطورها، وبعد التحول الذي دخلت به التاريخ في بداية العصر الحجري الجديد، فهو يرى أن التطور الذي حول المجتمع البدائي في نهاية العصر الثلجي إلى مجتمع من طراز جديد، أي إلى (الحضارة) يمكن الآن أن يحول هذه الحضارة إلى طراز جديد هو (الحضارة العالمية). وهذا التحول قد يغير توقعات التاريخ تغيرا تاما لا يدع معه مجالا لافتراض (الأفول)، إذ أنا في التوقع الجديد لن يكون أمامنا سوى افتراض الكسوف الكلي والنهائي الذي لا يمكن أن تقوم به(نهضة). فمشكلة الحضارة تصاغ حينئذ في مصطلحات تستبعد مراحل التعديل. وتستبعد(عودتها) التي احتفظت بها حتى الآن حين دارت دورتها خلال آلاف السنين. ويوضح هذا أن الموجة الأوربية قد حملت بذور الحضارة إلى أركان العالم القصية، وأخصب غرينها القارات كلها، وأن الحضارات إنما كانت (فانية) حين كان لكل منها حقلها الخاص، وهو عموما في حدود إمبراطورية، وكان حامل رسالتها الفكرية لا يتجاوز عبقرية جنس ما. فكان الأفول يحدث مع انهيار الإمبراطورية، ومع افتقار العبقرية العاجزة عن أن تتجدد بفعل عناصر أرضها وحدها. فإن البذور التي تعود لتلقي دائما في الأرض قد انتشرت في كل مكان، ولقد يتضاءل جنين هنا، ولكنه ينضج وينمو هناك. فنحن نصادف دائما أشكالا من المقاصة تحتفظ بالحضارة في مستواها وفي حيويتها. حائلة بينها وبين الأفول. وتلك نتيجة توحيد المشكلة الإنسانية. ولقد حققت العبقرية الغربية هذا التوحيد حين أوصلت مقدرة الإنسان إلى المستوى العالمي. وهو يتجلى في حياة كل شعب وفي تشكيلاته السياسية، وفي ألوان نشاطه العقلي والفني والاجتماعي. فالمقاييس وطرائق السلوك والتفكير لا تكف عن التقارب على محور طنجة جاكرتا ومحور واشنطن موسكو”(12).

إن هذا النص العميق والمؤسس لوحدة تحليل جديدة في مجال الدراسات الحضارية والاجتماعية والتاريخية يتضمن جملة قواعد، ومبادئ أساسية ينبغي تعليمها ونحن ندرس الحضارة العالمية كوحدة تحليل للفعل الحضاري والتاريخي. وهذه الأمور الأساسية يمكن تلخيصها فيما يأتي:

> أولا: تحول مسألة الحضارة من كونها عملا لا شعوريا إلى كونها عملا شعوريا، وفنا بشريا يقوم به العقل البشري.

والمقصود بكون الحضارة فنا لا شعوريا أي أنها كانت غاية ومثالا لا يدركه إلا الخصيصة من العلماء والمفكرين الذي جعلوا البحث في قضية الحضارة موضوعا لعملهم وتخصصهم. ولكن الحضارة بالنسبة إلى الإنسان العادي لم تكن إلا حلما لم يخامر شعوره وواقعه، بل كان أملا وطموحا عزيز المأخذ والمنال. فالحضارة بهذا المفهوم كانت غاية وهدفا يصبو الإنسان إلى تحقيقه عبر جهاد، ومكابدات، وعبر سلسلة لا متناهية من المحاولات والصعوبات التي تجعل الكثير من الناس يفقدون الأمل في تحقيقها. لقد كانت الحضارة حلما بعيدا وغاية عسيرة المنال. ولهذا عبر عنها بن نبي بقوله أنها عمل لا شعوري- أي- ليس في متناول الجميع، ولكن تستهوي من العلماء، والخصيصة من يروم الصعاب، ويكابد المشاق للبحث في موضوعاتها وقوانينها. ولكن وبسبب التحولات في الوعي البشري، والقيم البشرية، والإنجازات الحضارية المعاصرة في مختلف المجالات أصبح موضوع الحضارة موضوعا اجتماعيا. أي أن الحضارة بعدما كانت من عمل اللاشعور المخفي أصبحت عملا شعوريا واقعيا ملموسا. فلقد أصبح هما يوميا للإنسان، وهدفا عمليا يتفنن في تحقيقه وتحصيله يوميا. وهكذا أصبحت الحضارة جزءا لا يتجزأ من واقع الإنسان، وكفاحه اليومي. فالإنسان أصبح مع التطورات الحضارية الحديثة يرى الحضارة كوظيفة اجتماعية يقدم لها كل قدراته وطاقاته، وإمكاناته العقلية والفكرية وملكاته الذهنية والضميرية. إن هذه الذاتية الجديدة للحضارة قد أدت إلى توسيع نطاق الوعي البشري، وأفقه من النطاق الذاتي للحضارة، ومن الأفق العنصري، والمحلي والثقافي الخاص للمجتمع إلى النطاق العالمي الواسع. وهذا في حد ذاته تحول جوهري في قيمة الحضارة، ومفهومها، ومضامينها. فكما أنه بالدرجة الأولى توسيع للعقل، والذهن، والفكر في المكان والزمان والواقع، فهو كذلك توسيع لمفهوم الحضارة. إن كل هذا التوسيع والتحويل في أفق الحضارة ذاتها يعني تحولا جوهريا في نظام الحضارة ذاته.

> ثانيا: هذه الذاتية الجديدة للحضارة، وهذا الحضور العملي العضوي للحضارة في حياة الإنسان، وفي نطاقه ومجاله الشخصي والعالمي الواسع، قد أصبغ فهما جديدا على نظام الحضارة وعلى قانونها الذي اتبعته لقرون متعددة. فالحضارة في نطاقها وأفقها القديم وفي ظل مفهوم “الحضارة” كوحدة للتحليل كانت تتبع نظام الدورات الحضارية(13) الخاضعة لقانون الميلاد والصعود والأوج والأفول. ولكن يبدو أن هذا التحول قد غير حتى طبيعتها الخاصة وولدها خلقا جديدا. فأصبحت الحضارة على ما يبدو ستتجاوز منطق الدورة، ومنطق الأفول والفناء، وتصبح متمتعة باستمرار نسبي يجعلها تنتشر، وتتوسع بصورة لا تسمح بأفولها ولكن ببقائها. إن النطاق الجديد للحضارة، جعلها عالمية وما دامت الحضارة عالمية فبقائها يصبح جزء من تركيبها ووجودها، وليس خارجا عنها. فالعالمية جعلت بقاء الحضارة واستمرارها، وعدم أفولها خاصية ذاتية في الحضارة ذاتها، بحيث أصبح بقاءها جزء من مسيرتها وتركيبها الجديد. وبعبارة أخرى لقد وصلت الحضارة إلى نوع من الاستقرار والتشكيل الذاتي والنظام والتنسيق، بحيث أصبحت نظاما عالميا(14) لازما للوجود البشري في عصر العالمية. وكأن الحضارة مع العصر العالمي أصبحت لازمة وجودية لا تقوم بدونها حياة الإنسان.

> ثالثا: إن هذا التشكيل الجديد للحضارة وهذا التحول ليستحولا طفريا أو فوجائيا أفرزته عوامل خارجة عن نطاق الوعي التاريخي والاجتماعي للإنسان، وإنما هو تحول منطقي تابع للأطراد العام للوجود البشري في هذا العالم، وهو كذلك حلقة في سلسلة تطور الوعي البشري، وتطور وجود الإنسان في الأرض. فمالك بن نبي يرى أن هذا التحول منطقي، ومطلوب إذا ما أخذنا بعين الاعتبار التطور العام للتاريخ الإنساني. فمنعطف التاريخ الحالي يمثل منعطفا تحوليا كبيرا يجتاز بالإنسانية مرحلة مهمة وخطيرة في وجود البشرية كلها. يقول بن نبي معلقا على بعض أفكار المؤرخ الإنجليزي الكبير أرنولد تويمبي: “فذلك لأن المؤرخ الكبير يرى في منعطف التاريخ الحالي أو يستشعر التحول الذي يجتاز بالإنسانية المرحلة الثانية من تطورها، وبعد التحول الذي دخلت به التاريخ في بداية العصر الحجري الجديد، فهو يرى أن التطور الذي حول المجتمع البدائي في نهاية العصر الثلجي إلى مجتمع من طراز جديد، أي إلى (الحضارة) يمكن الآن أن يحول هذه الحضارة إلى طراز جديد هو (الحضارة العالمية). وهذا التحول قد يغير توقعات التاريخ تغيرا تاما لا يدع معه مجالا لافتراض (الأفول)، إذ أنا في التوقع الجديد لن يكون أمامنا سوى افتراض الكسوف الكلي والنهائي الذي لا يمكن أن تقوم به(نهضة). فإذن التحول الحالي للوعي الإنساني باتجاه الحضارة العالمية تحول منطقي وليس طفري. ومع هذا التحول تبدأ تباشير وحدة تحليل جديدة للتاريخ والاجتماع البشري هي “الحضارة العالمية”(15) وهكذا ستنقلب البنية الذاتية لما كان يعرف بالحضارة وتدخل الحضارة ذاتها منطقا أخر، وتسير وفق نسق أخر يلغي فكرة أفولها وكسوفها الكلي، وبالتالي فحضور الحضارة يصبح حضورا عالميا مستمرا غير خاضع لقانون الدورة الذي فككته وأتلفته طبيعة الحضارة الجديدة ولكن تكون الحضارة خاضعة لقانون أخر هو قانون الاستمرار والبقاء.

> رابعا: يرى بن نبي أن قانون الدورة وقانون أفول الحضارة وفنائها إنما كان يطبق في إطار ومحيط اجتماعي مشروط باتصال الحضارة بواقع اجتماعي معين، وفي نطاق جغرافي محدد هو نطاق الدولة أو المجتمع أو الامبراطوربة. فضمن هذا الحقل الخاص كان قانون الدورة فاعلا وحيويا في نقل قيم الحضارة من مكان إلى أخر، ومن إمبراطورية إلى إمبراطورية أخرى. فكانت الحضارة في نطاقها الجغرافي الخاص هذا تهاجر من بقعة إلى أخرى، كلما انتفت عوامل استمرارها في ذلك الواقع، وتشكلت تلك العوامل في الواقع الجديد. فالرسالة الفكرية للحضارة والإشعاع الحضاري للحضارة كان لا يتجاوز النطاق الإمبراطوري المحدد للجنس المحدد، فكانت الحضارة تخصب هناك في نطاق الإمبراطورية، وكانت ثمارها الأساسية تعود إلى حقلها الخاص.

ولكن هذا لا يمنع نوعا من الإشعاع على المجتمعات المجاورة أو على المجتمعات البعيدة بعد مرور الزمان، وانتقال قيم الحضارة بطرائق معينة إلى المجتمعات الأخرى. إن أفول الحضارة، وهجرتها إلى مكان أخر كان مرتبطا بسقوط الإمبراطورية وضعفها وانحلالها. وكذلك بعدم قدرة عبقريتها الخاصة، وخبرتها الحضارية الجزئية النسبية المتصلة بثقافتها، وواقعها، وممارستها، وفعلها الحضاري على اكتشاف قوانين معالجة الأفول، وقوانين البقاء والاستمرار الحضاري، وقوانين تجديد الحضارة، والوعي، ومعالجة الإنحلالات، والتفككات التي تظهر على وجه الحضارة وجوهرها. وهكذا فلا تستطيع الإمبراطورية بعبقريتها تدارك الأمر حتى يلفها قدر الأفول والفناء، ويشملها الانحلال ويعتريها الاضمحلال والنكوص، والتراجع ويحل محلها مجتمع أخر قد توفرت عنده الشروط، واستقامت له الموازين. إن هذا العجز وهذا النقص في فهم قوانين التجديد، وقوانين إشفاء الهرم الحضاري، واسترجاع الحيوية الحضارية هو نفسه الذي حدا بابن خلدون أن يضع قانونه الصارم في شأنأفول الحضارات. فحين نظر ابن خلدون بفكره الثاقب في قوانين العمران والاجتماع الإنساني وصل إلى خلاصته المحزنة في شأن مسألة الأفول الحضاري حين قال: “وفي هذا الطور تحصل في الدولة طبيعة الهرم، ويستولي عليها المرض المزمن الذي لا تكاد تخلص منه، ولا يكون لها معه برء، إلى أن تنقرض كما نبينه في الأحوال التي نسردها. والله خير الوارثين”(16).

إن ابن خلدون في الحقيقة لم يجانب الصواب كثيرا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار وعيه، وفكره، وواقعه، وزمانه، ومناهج التحليل التي استعملها، ووحدة التحليل التي استخدمها. فابن خلدون في تحليليه للمسألة الحضارية كان على وفاق تام مع سقف الوعي الذي توصل إليه زمانه. وكان صادقا أيما صدق في فهمه لقانون أفول الحضارات، بحيث قدم لنا مثالا واقعيا كيف كانت الدول تسقط، وتأفل دون رجعة، وكأن الأفول هو القانون الجاري عليها منذ الأزل وهو باق إلى الأبد كما تصورمفكرنا الجليل. فصحيح تماما أن تلك المجتمعات لم تتمكن بعد من تطوير فقه في دراسات الحضارة يمكن أن نسميه فقه بقاء الحضارة أو فقه الاستمرار الحضاري.

فهذه الوحدة في المشكلات الإنسانية، وهذا الوعي المشترك بالمشكلات الإنسانية هو في حقيقته صورة من صور تأثير مفهوم وثقافة الحضارة العالمية في الإنسان والثقافة المعاصرة. وفي هذا السياق يقول بن نبي: “فهناك وحدة في المشكلة الإنسانية تنبثق عن المصير المشترك، وهي من حيث كونها مجرد مفهوم ميتافيزيقي في درجة وضوحه. كانت تجعل المؤرخ الذي يتجاهل هذا التصور للأشياء أو يعارضه، في موقف يمكنه ويحق له أن يجهلها. ولكنها قد أصبحت واقعا ماديا.  فوحدة التاريخ تتأكد في القرن العشرين بطريقة لا تدع مجالا للفكرة الكلاسيكية المألوفة، فكرة (الوحدات التاريخية) المستقلة. التي تفهم فيها كل وحدة في حدودها؛ فلقد دخلت الإنسانية مرحلة لم يعد ممكنا فيها تحديد مجال الدراسة. الخاص على طريقة(تويمبي) ولعله للمرة الأولى ينبغي على التاريخ أن يضع مشكلته وضعا منهجيا في المصطلحات الميتافيزيقية. فالفكر الديني الذي أبعده التطور الديكارتي وجهود الباحثين والعلماء عن نظريات التاريخ قد عاد إليها بطرق عقلية. حتى لو عبرنا في مصطلحاته عن المشكلة الأساسية التي تتصور طبقا لها جميع المشكلات الأخرى. لعبرنا عنها بمشكلة خلاص الجنس البشري، وتلك هي المرة الأولى التي تواجه فيها المشكلة مواجهة كلية”(17).

إن هذا التوجه نحو العالمية، وأن هذه الوحدة في المشكلات الإنسانية، وأن هذا التلاحم والتلاقي والاشتراك في تحمل مسؤولية المصير البشري ومسئولية الحضارة، إنما هو ثمرة لهذا الواقع العالمي الجديد، ونتيجة منطقية لتكرس قيم ومفاهيم(18) الحضارة العالمية في واقعنا الاجتماعي. فالقضية الكبرى هنا هي قضية المواجهة الحضارية الكلية العالمية للمشكلات الإنسانية. فلم يعد ممكنا مطلقا لأي مجتمع أن يستقل بعلاج مشكلاته لوحده أو الانغلاق على ذاته، بل أصبح ضروريا له أن يحضر في دوائر الوعي المختلفة انطلاقا من دائرة الوعي الذاتي إلى دائرة الوعي الأسري، فالمحلي، فالقومي، فالإقليمي، فالدولي، فالإنساني، فالعالمي، فالكوني. يقول بن نبي: “إن من الواضح أن الضمير الإنساني في القرن العشرين لم يعد يتكون في إطار الوطن والإقليم، وهذا مع اعترافنا بأن أرض المولد التي يعيش عليها الناس تمدهم بالبواعث الحقيقية لمواقفهم العميقة، غير أن الضمير الإنساني في القرن العشرين إنما يتكون على ضوء الحوادث العالمية التي لا يستطيع أن يتخلص من تبعاتها، فإن مصير أي جماعة إنسانية يتحدد جزء منه خارج حدودها الجغرافية. فالثقافة أصبحت تتحدد أخلاقيا وتاريخيا داخل تخطيط عالمي”(19).

إن هذا التخطيط العالمي وهذا المستوى العالمي وهذه الدائرة العالمية أصبحت ذات أثر قوي في حركة الوعي الحضاري والثقافي لمختلف المجتمعات والثقافات. وما لم يرتفع إنسان هذه الثقافات إلى هذا المستوى العالمي من النظر، وما لم يدرك كيف أصبح مفهوم “الحضارة العالمية” مؤثرا في حياته الخاصة والعامة وفي وجوده الشخصي والثقافي، وفي تكوينه الروحي والعقلي، وفي سلوكه العقدي والفكري، فإن هذا الإنسان سيبقى دوما عاجزا عن إدراك ما يحدث في هذا العالم الجديد من حوله من قضايا وحوادث كبرى. إذا لابد أن يمتد وعي الإنسان ليكون حاضرا في دائرة الثقافة والواقع العالمي. “فالمستوى الشخصي للمسلم حتى ولو نما نموا نسبيا، يمكن أن يبدو في حالة تضاؤل، بقدر ما ينمو تطور الآخرين بسرعة أكثر. والواقع أن الوعي الاجتماعي الذي كان يتكون منذ حين في دائرة محدودة أمام منظر محدد عموما، بنطاق بلاد معينة هي الوطن، قد أصبح يتكون اليوم في إطار أكثر امتدادا بدرجة لا تضارع. وفي منظر أكثر انفساحا. كذلك فكما هي الحال بالنسبة للطفل وللأسباب نفسها يحصل امتداد المستوى الشخصي للفرد: امتداد حضوره إلى مدى أبعد من مقره، فوسطه، فبلاده وهذا التوسع في مستواه الشخصي، يكون مقياسا مباشرا لدرجة تحضر هذا الوسط حيث لا يحيا الفرد مع أهله ومواطنيه فحسب، ولكن مع عدد أكبر من الآدميين بقدر ما يعي فيه الفرد المولود في الدائرة رقم 1 والدائرة رقم 2 أعني مشاكل العالم العربي واتجاهاته وآماله، بقدر ما يكتمل وعيه ذاته وينمو مستواه الشخصي، وبقدر ما يتخطى دائرة داخلية إلى أخرى خارجية بقدر ما ينمو عالم أفكاره؛ وعندما يبلغ وعيه الاكتمال المتطابق مع الدائرة العالمية يكون مستواه الشخصي قد بلغ أقصى اكتماله، بحيث ينبث حضوره في سائر أجزاء المعمورة”(20).  إن هذا الواقع الجديد يجلي لنا حقيقة ماثلة هي أن الحضارة الإسلامية والأمة الإسلامية باعتبارها صاحبة نموذج حضاري متميز وعالميالتوجه، وبوصف نموذجها معاير لكثير من قيم النموذج الحضاري المهيمن اليوم فإن المسؤوليات والواجبات الحضارية للأمة أصبحت مضاعفة وأكثر تعقيدا وتشابكا من ذي قبل. والمتوقع أن تواجه الأمة بحكم موقعها ورسالتها ونموذجها مواجهات حضارية شرسة إما أن تقودها إلى القوة والفاعلية الحضارية وإما إن تعمق ضعفها وعزلتها وتخلفها الحضاري. يقول الأستاذ الطيب: “كما أتوقع من ناحية أخرى، أن يكون هذا القرن من أقسى وأخطر القرون على الإسلام ودعوته وثقافته وأتباعه…إذا عجزت منظومتنا المعرفية ومؤسساتها الأسرية والتربوية والإعلامية والاجتماعية والسياسية…عن إنجاز التحول المعرفي الشمولي العميق، عللا طريق الثقافة السُننية المتكاملة، وظلت أجيال الأمة أسيرة زيف المنطق الإشهاري، وشطحات الفكر الخرافي، ومتاهات الدجل الإيديولوجي، وعفونات الكبت الاجتماعي، أو الازدواجية الثقافية عامة…الأمر الذي يجعلها تنهار في معتركات الجدل الثقافي والحوار الحضاري الذي يفرضه عصر انهيار الحدود وتقارب المسافات والأزمنة وتعاظم وسائل وإمكانات التأثير والتأثر”(21).

لقد أصبح جليا تماما أن الواقع العالمي أصبح في حد ذاته واقعا حيويا مؤثرا، وواقعا حاضرا متكرسا في وجود كل مجتمع، وكل ثقافة بغض النظر عن مدى استيعاب الثقافات المختلفة لهذا الوجود الجديد، ولهذا الحضور الجديد لقيم الواقع العالمي، والثقافة العالمية، والوجهة العالمية في التاريخ المعاصر للحضارة البشرية.

المنهج الحضاري البنبي وضرورة التفاعل والتعايش العالمي

إن ما سبق من التحليل يؤكد ضرورة التفاعل والتعايش(22) والتشارك بين القوي والضعيف، وبين المركز والهامش وبين المتحضر والمتخلف، وبين المهيمن والمستضعف، وبين المستعمر والقابل للاستعمار. وهذا منطق التشارك والتفاعل والتعايش والسلام(23) الذي بشر ويبشر به كذلك بعض كبار العلماء والمفكرين والروحيين. يقول بن نبي رحمه الله: “إن العامل الصناعي الذي كان له أثره في إحداث التفرقة والتنويع حتى عشر السنوات الأخيرة، مما أتاح للشعوب المتقدمة المتطورة وضعا ممتازا بفضل تفوقها الاقتصادي والسياسي، يخيل إلينا أن هذا العامل يتدرج بالإنسانية شيئا فشيئا نحو الانسجام والوحدة، محتما عليها بذلك مصيرا مشتركا. وهكذا نرى منذ حوالي عشر سنوات حتمية معينة موحدة كنا نتصور عواملها في النطاق الميتافيزيقي، أعني وراء العوامل التاريخية، وأصبح تأثيرها واضحا في مجال التاريخ. على أن المشكلة الإنسانية يجب أن ينظر إليها من كلا الوجهين أي من وجهة العوامل الموحدة ومن وجهة عوامل التنويع.”(24) ومن نماذج وأمثلة هذا الإتجاه: يقول الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون في كتابه “أمريكا والفرصة التاريخية: إن العديد من الأمريكيين لا يعرفون أن العالم الإسلامي تراث غني. إنهم يتذكرون فقط أن المسلمين نشروا بسيوفهم الدين الإسلامي في آسيا وأفريقيا وحتى أوروبا، وينظرون بفوقية إلى الحروب الدينية في المنطقة. إنهم يغفلون أن واقع الإسلام لا ينادي بالإرهاب، وأنه لم يمض أكثر من ثلاثة قرون على الحروب الدينية التي تورط فيها المسيحيون في أوربا ضد المسلمين. فعندما كانت أوروبا تتقهقر في العصور الوسطى، كانت الحضارة الإسلامية تتمتع بعصرها الذهبي. لقد قدم العالم الإسلامي إسهاما ضخما في العلوم والطب والفلسفة. يقول ويل ديورنت في كتابه تاريخ التمدن (مجلد عصر الإيمان): وعندما أخذ كبار علماء النهضة الأوروبية يوسعون آفاق المعرفة العلمية، إنما كانوا يفعلون ذلك لأنهم كانوا يقفون على أكتاف عمالقة العالم الإسلامي.

وحدة المشكلات الإنسانية وأساسيات بناء ثقافة عالمية متفاعلة

فعلى الرغم من أن الواقع الحالي وطبيعة المشكلات البشرية الحالية، ونوعية التشكيل الحالي للخريطة الحضارية والثقافية والسياسية للعالم لا يترك لنا فرصة للتفكير في تغييره وتحويل الموازين لصالح الخيار الثالث المشار إليه أعلاه ولو على المدى القريب والمتوسط، إلا أننا ينبغي أن نتفائل على المدى البعيد، لأننا نرى تباشير واقع عالمي جديد قد تبرز فيه فلسفة وقيم الخيار الثالث. إن البشرية ومع التطورات الأخيرة التي أخذت حيزها في الخمسين سنة الأخيرة، مجبرة على إعادة النظر في مفهوم الحضارة، ومنطقها في عصر العالمية، والتحول السريع في مناهج وأدوات البناء الحضاري، وفي طبيعة العلاقات الحضارية والثقافية بين الحضارات المختلفة. فمع المنطق الجديد نجد أن الحضارة الغربية -التي نعتبرها حضارة مركزية مهيمنة الآن- نفسها أصبحت جزءا من التشكيل الحضاري العالمي العام الذي نتحدث عنه. فهي جزء لا يخرج عن تأثيرات المنطق الحضاري العالمي المعاصر الذي تمارسه الحضارة بعد أن أصبحت تمتاز بنوع من الاستقلال على التأثيرات التي تمارسها القوى التقليدية. فعلى الرغم من استمرارية هيمنة الحضارة الغربية وفاعليتها، إلا أنها تبقى خاضعة للمنطق الحضاري العالمي الذي لا يتشكل فقط في الواقع الغربي، ولكن أصبح ظاهرة عالمية مستقلة نوعيا عن القبضة الصارمة للحضارة الغربية التقليدية. إن “التطور الذي يدفع الحضارة اليوم إلى الشمول والعالمية، أي إلى حالة سيضطر فيها الأوربي -(الغرب)- إلى تقبل واحترام عالم الآخرين حيث تتجدد فيه فكرته عن الإنسان.”(25). يقول جارودي في معرض تحليله لضرورة تغير نظرة الغرب إلى الآخرين: “إن في وسعنا أن نأمل الحصول على نتائج ثلاث…منها…تحويل رؤيتنا العالم عن تركزها حول أنانا الصغيرة. إن الحضارات اللاغربية تعلمنا، بادئ ذي بدء، أن الفرد ليس مركز كل شيء، وأن فضلها الأعظم إلى أنها تجعلنا نكتشف الآخر وكل الآخر دون فكرة مبيتة تضمر التنافس والسيطرة.”(26).

وهذا الواقع الجديد ليس بواقع مفاجئ، ولكنه ضرورة حتمية متوافقة مع نوعية التطور التاريخي للحضارة البشرية، ومتوافقه مع منطق التاريخ ذاته، ومتوافقة مع نتائج التطور العلمي والتقني والحضاري الشامل، ومتناسبة مع حجم التحول في الوعي الحضاري البشري، ومنسجمة نوعيا مع سنن وقوانين ومنطق الواقع العالمي. فليست هذه العالمية خرافة وليست طموحا خاليا من المضمون وليست فكرة فوجائية. “والعالمية في مجراها ليست أطروفة من مفاجآت التاريخ، وليست اتجاها عقليا أو سياسيا، وإنما هي ظاهرة القرن العشرين. وهي في واقعها المادي نتاج رائع لمقدرة الإنسان وللمستوى الجديد الذي رفعت إليه هذه المقدرة ألوان نشاطه، حتى أصبحت العالمية غريزة القرن العشرين ومعناه. ولقد تجاوز هذا الحضور أولا الحقل المحلي في القرية ثم في المدينة، ثم وصل بعد ذلك إلى المستوى القومي، ثم امتد شعاعه مع النمو الصناعي، فأصبح دوليا وأخيرا عبر جميع الحدود فأصبح عالميا.وهذا التصغير للمكان يعد كأنه (تكبير ) للإنسان وامتداد ورحابة في نطاقه الشخصي؛ إذ في هذا المستوى يصبح العالم وطنه، وميدانه المحدود ومجاله الحيوي العادي إن عهد العالمية قد حان مع العهد الذري، أي مع نتائج النمو الصناعي، ومع الفتوحات العلمية التي أتاحت لطاقة الإنسان أن تسيطر سيطرة تامة على الكرة الأرضية…العالمية وليست هذه فكرة، أو مجرد رغبة، أو خيالا، أو مبدأ أخلاقيا، بل أنها تصريح لعصرنا وغاية محتومة لتطورنا الراهن، وضرورة تفرضها الظروف الصناعية والنفسية التي بلغها العالم.”(27)

خــــــلاصات

إن هذا التحليل لمسألة الحضارة العالمية كوحدة للتحليل التاريخي والحضاري والاجتماعي يقودنا إلى الخلاصات الآتية والتي وضعها مالك بن نبي بكل ووضوح وعمق:

أولا: “وهذه الاعتبارات ترد مشكلة الحضارة إلى المستوى العالمي.”(28)

ثانيا: “إنتكامل النوع الإنساني وسلامه قد أصبحا أهم ما يهم نفسية القرن العشرين واجتماعه إلى حد ما.”(29)

ثالثا: “غير أن مهمة الإنسانية اليوم خاضعة في عمومها لقضية(30) السلام، التي تفرض نفسها مقدما على كل مشروع اجتماعي روحي في العالم الراهن، فمشكلة السلام قد أصبحت هي النقطة التي تلتقي عندها خيوط التاريخ جميعا.”(31)

رابعا: “فالثقافة الحضارية ينبغي أن تعطي لفكرة السلام شخصيتها الحقيقية، بأن تضعها منذ الآن تحت ضمان المبادئ.”(32) وهذا يتطلب مما يتطلب: “إن الجهود يجب أن تصب في دائرة السلام، ولكن السلام لن يكتب له البقاء إذا لم يكن عادلا. فالمطلوب هو ذبح العدالة من أجل السلام، لأن العدالة تثأر لنفسها، كما أن الحرية أيضا تثأر لنفسها… فالسلام الحقيقي ليس هو السلام الذي تفرضه القوة بدل القناعة كما يخطئ من يرى أن السلام أمر غير قابل للتطبيق، استنادا إلى أن السلام غير العادل لايمكن تطبيقه.”(33).

خامسا: “فتفكيك العالم إلى عناصره الراهنة يهدف إلى تجميعه بعناصر جديدة صالحة لتمريره من مرحلة التجزئة والتميز إلى مرحلة التجمع والعالمية.”(34) يقول الأستاذ التويجري: “ولهذا يجب أن يكون التعايش بين الأديان دعما للجهود الخيرة التي يبذلها المجتمع الدولي من أجل التعايش الحضاري والثقافي بين الأمم والشعوب، وأن يكون قوة دفع لهذه الجهود نحو تطويرها وإغنائها وتعميمها، وحتى يكون التعايش بين الأديان في خدمة السلام العادل، يجب أن تتحرر الأطراف المشاركة من كل القيود والضغوط والارتباطات التي تتعارض ومبادئ هذا التعايش وأهدافه.”(35).

سادسا: “أن بناء عقلية عالمية جديدة لا يصح أن يتصور من الزاويتين الاقتصادية والسياسية، بل من سائر الزوايا مقدمين في علاجنا العنصر النفسي الذي يخلق نوعا من القاسم المشترك في جميع المشاكل الثائرة حاليا بين الشعوب ونحن نلاحظ ذلكفي كل يوم.”(36).

سابعا: “فالمثقف المسلم نفسه ملزم بأن ينظر إلى الأشياء من زاويتها الإنسانية الرحبة، حتى يدرك دوره الخاص ودور ثقافته في هذا الإطار العالمي.”(37).

خاتمة

لقد تبين لنا من هذا الاستعراض المقتضب لمسألة “الحضارة العالمية” كأساس مهم من أسس المنهج الحضاري عند ابن نبي، أن تغييرات جذرية ينبغي أن تخطط وتطبق في وعينا وثقافتنا وطرائق تفكيرنا وأنماط تعايشنا الحضاري ومناهجنا التربوية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والتقنية، لكي نتمكن من بناء إنسان وثقافة وحضارة التفاعل والسلام والتعايش والتوازن والقوة والنفع الحضاري العام للبشرية.

أ.د. عبد العزيز برغوت

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>