رجل فقدناه عبد السلام حمدان : المجاهد في صمت


 

لم يكن فقيدنا -رحمه الله- سوى مراقب للدروس بجامع القرويين، لكنه كان هو الدراسة بالقرويين، وكان هو القرويين، ولذلك لم يتردد من لقيتهم من إخواني طلبة وعلماء جامع القرويين لحظة وداعه عن القول >ذهبت القرويين< قالوها بلسان واحد، وقلتها معهم، لأن الفقيد -رحمه الله- لم يكن رجلا عاديا، و من الصعب أن يوجد من يملأ ثغرته، ويسد ثلمته، وأمثاله لا يجود بهم الزمان إلا نادرا.

سي عبد السلام حمدان رحمه الله رجل آتاه الله من الصبر ما فاق به غيره، ومن الحكمة ما بهر به الآخرين، فقد كان للطلبة آبا رحيما، ومشفقا حليما، يعرف كيف يسدد ويقارب، وكان للأساتذة صديقا حميما، يجدون عنده حاجتهم، ويدركون لديه بغيتهم.

لقد كان رحمه الله صغيرا في وظيفته من حيث الظاهر، أما في العمق فقد كان كبيرا جدا، وكذلك كان يرى نفسه، كان يرى أنه خديم للعلم والعلماء، وأنه في جهاد حقيقي، ياتي إلى القرويين من السابعة والنصف صباحا -وأحيانا قبل ذلك- فلا يغاردها إلا بعد الخامسة مساء، كل يوم من السبت إلى الأربعاء.

نعم، لقد كان كبيرا في أهدافه ومقاصده، كبيرا في همته وغاياته، فهو لم يكن يؤدي وظيفته العادية فحسب وإنما كان يعمل من أجل إخراج علماء شباب صالحين، يحيى الله بهم ما اندرس من الدين، وينفع بهم هذا البلد، وكم كان يشعرنا -رحمه الله- بما ينتظرنا من جسامة المسؤولية، وثقل الأمانة، وأننا لله لا لأنفسنا، وأن الأمة تنتظر منا مالا تنتظره من غيرنا.

إن فقيدنا تخلى عن التعليم العمومي واختار أن يكون مراقبا للدروس بجامع القرويين آملا أن يكون قد أدى بعض ما عليه لكتاب الله الذي يحفظه بين جنبيه، وأن يكون مشمولا بقوله تعالى {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين..}.

لم تكن سبعة عشر عاماً قضاها بجامع القرويين في جهاد متواصل، وبناء متكامل لأجيال متلاحقة من طلبة العلم هي كل ما يذكر به فقيدنا -رحمه الله- وإنما له جولات  وصولات في تربية أجيال عديدة من بداية السبعينات بمدينة فاس، في جلسات تربوية، ولقاءات تواصلية، ومخيمات صيفية… وشيوخ الصحوة وشبابها يعرفون جهاده فيها ويقدرون له فضله عليها. وها هو ذا مسجد يوسف بن تاشفين في قلب فاس وهو يصدع اليوم بالحق لو تكلم لأخبر عن بلاء هذا الرجل في بنائه، وقد كان عضو اللجنة المكلفة بالبناء رحمه الله.

ولا أنسى كيف كان يثني ركبتيه بكل تواضع وينحني بكل إجلال أمام شيخنا سيدي الحاج المكي بنكيران رحمه الله ليقرأ عليه -دراسة- ربعا أو ثمنا من القرآن كل يوم بعد صلاة العصر، ولا يضيره أن يجلس معنا ونحن طلبة صغار ويتعلم القراءات كما نتعلمها.

وإن كنت أنسى فلا أنسى لحظة وداعه، وقد صلينا عليه العصر عشية يوم السبت 23 شوال 1426 (2005/11/26) بالمسجد الذي ساهم في بنائه (يوسف بن تاشفين بالأطلس) والذي كان ملازما للصلاة فيه عندما لا يكون في القرويين، فانطلق شيخ صلحاء فاس سيدي العربي غزال -أطال الله عمره- يذكر الناس بالله، ويذكر لهم محاسن الفقيد وفضائله، وخسارة الأمة عامة -وجامع القرويين خاصة- فيه، فخنقته العبرة، وغلبته الدمعة، وبكى -وبكى الحاضرون- بكاء شديداً، لرجل -لا ككل الرجال- فقدناه، ولمصير نسيناه!

وفي المقبرة -كما في المسجد- والغيث ينزل، والرحمة قد عمت الجميع ، وباب الاستجابة مفتوح كانت الدموع تسيل، والألسن تلهج بالدعاء، حتى إن آخر من عزيته وعزاني من أساتذة جامع القرويين لم يستطع أن يكلمني بكلمة واحدة، وإنما كانت دموعه فقط تتكلم!

اللهم ارحم هذا الرجل برحمتك، وأسكنه فسيح جنانك، وعوض القرويين وأسرته والأمة خيرا يا أرحم الراحمين.

امحمد العمراوي

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>