شـرُّ الـرعـاةِ الحـطمةُ


قال  : >إنَّ شرَّ الرِّعاءِ الحُطَمَةُ<(متفق عليه)

الرعاء : ج راعٍ، وهو الذي يرعى الماشية من إبل أو بقر أو غنم، وسمي : >راعيا< لأنه يرعاها أي يحفظها من كُلّ خطر، ويراقبها ويحرُسُها من أن تقع في حَدٍّ من حُدُود الغير فتأكل ما ليس من حقها أكله، ومن المراعاة لها أيضا اختيار أحسن المآكل والمراعي لها.

واستُعير الراعي للماشية للراعي للناس الذي يتولى شؤونهم كُلّها، فيعرف كيف يجلُب المصالح لهم، ويدرأ المفاسد عنهم. ولم يكن من العبث أن يجعل الله تعالى الرسل رُعاة للحيوان قبل تكليفهم بالرعاية للإنسان، فذلك معناه أن القيادة للإنسان ليست سهلةً، بل هي فَنٌّ من الفنون الراقية التي إذا لم يُحْسنها الإنسان قاد الناس إلى التهلكة المادية والمعنوية، وكفى دليلا على ذلك ما نرى عليه الأمة الإسلامية من المهالك، لأن أكثر رُعَاتها تخرّجوا من المدارس العسكريةالوحشية التي لا تومن بمبادئ إسلامية، ولا أخلاقٍ إنسانية، فأهانوها، وفرَّقوا شملها، وكسروا عظمها بعد أن امتصوا دمها وشحمها ولحمها، وأسكتوا نبض عروقها بين جوانحها، ولو كانت الأمة حية واعية لما استأمنتْهم حتى على رعاية الدجاج والفئران فضلا عن رعاية الحيوان.

أليس من العجب العُجاب أن تجد الدُّول الإسلامية التي تحمِل أسْمَى رسالة إصلاحيةٍ للأكوان والحيوان والإنسان مُسَجّلةً -عالميّاً- في أعلى رُتَبِ الفساد والإفساد، أي ليس فوقها -أي تحْتها- دولة من دُول الكفر بلغت مبلغها في الفساد والإفساد المالي والسياسي، أي في الاستبداد بالشعوب واختلاس الأموال العامة، فقد تضافر هذا البعض اللئيم السافل على إذلال الإنسان وإفقار الأوطان، يا حسرة على الرِّعاء الظلمة ما ياتيهم من مُنبِّه مُصْلح راشد عاقل أمين إلا كانوا به مستهزئين ومُلقين به بين المجرمين.

فلو عَقَل هؤلاء الرُّعاة الذين سُجِّلَتْ دُولهم في أسفل درجات الصلاح والإصلاح، وأعلى درجات الفساد والإفساد لقدَّموا استقالتهم سريعا، واعتذروا لشعوبهم، قبل أن يقيلهم عزرَائِيل أو جائحة شعبية ولات حين مندم. ولكن لا حياة لمن تُنادي >وَإِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فافْعَلْ ما شِئْتَ<.

وهؤلاء المُوصلون للدول الإسلامية إلى هذه المكانة الهابطة بين الأمم -من مختلف المِلل- يشهد لهم مُكْثهم الطويل على صُدور الشعوب المنخورة، وتشهَدُ لهم مشاريعُهم الفارغة من كُلِّ إصلاح حقيقي، وتشهد لهم بلادتهم البليدة في معالجة الحرائق والشدائد والأزمات، ويشهد لهم كلامهم المزوق المعسول، ويشهد لهم حُبُّهم للكرسي وعَضُّهم بالنواجد عليه إلى درجة احتكاره ووَقْفِه، ويشهد لهم التزوير الذي يمارسونه في البنود الدستورية والصناديق الانتخابية، ويشهد لهم التحالفُ مع الشياطين وأعداء الأمة، ويشهد لهم شراء الضمائر والذّمم… كُلُّ ذلك يشهَدُ لهؤلاء أن وجُوهَهُم تصفَّقَت وتنحّسَتْ فأصبحت لا تعْرِق، ولا يَنْدَى لها جَبِينٌ، وأن قلوبهم تصلّدَتْ وتحجّرت وتطيّنَتْ حتى أصبحَت لا ينفُذ إليها شعاع من نور الحياء، أو قبسٌ من نور الحِكمة {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يفْقَهُون بِها ولَهُم أعْيُنٌ لا يُبْصِرُون بِها ولَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُون بها أولَئِك كالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أولئِك هُمُ الغَافِلُون}(الأعراف).

قست قلوبهم قسوة لا مزيد عليها {فَهِي كالحِجَارةِ أوْ أَشَدُّ قَسْوةً وإنَّ مِن الحجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وإنّ مِنها لمَا يَشّقَقُ فيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وإنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيةِ اللّهِ}(البقرة) فهل يظنون أن الله عز وجل غافل عما تسبَّبُوا فيه من تأخُّر مريع للشعوب إلى أسفل السافلين بين دول العالمين؟!.

أما الحُطمة : فمعناه : الكثير الحَطْم والتهديم لرعيته، فهو بالنسبة للراعي لماشيته، يضربُ هذه، ويُكَسِّر قرْن هذه، ويقصِمُ ظهر هذه، ويظلم ابْن هذه بامتصاص لبنه من ضَرْعِ أمِّه، ولا يفكِّر لها في مصْلحة أبداً.

هذا الظالم للرعية من الماشية، أما الظالم للرعية من البشرية فهو الذي يحْتجِنُ كُل خيرات الشعوب فيستأثر بها هو ومن يحُوم حوله من المحاسيب والمتحزِّبين، فلا يفكِّر في مشروع إلا كانت المصلحةُ الشخصية أول أهدافه غير المُعلَنة، بحيث لو تأمَّلْت جميع المشاريع، وتتبَّعْت خفاياها وجَدت المستفيدين منها بالدرجة الأولى مجموعة من المحتكرين الدائرين حوْل محور القُطْب الحُطَمَة الذي حَطّم السياسة فجعلها سياسة الاستِعْلاء والاستبداد والاستكبار، وحَطَّم الاقتصاد فجعله في خِدْمة الخواصِّ المحظوظين، وحَطّم التعليم فجعله تعليما يُخْرج عُبّادَ المادة والبشر المُصَنّمين، وحَطَّم المجتمع فجعله يأكُل بعضه بعضاً، ويتلهّى بالمحرّمات المفسدة للعرض والدّين، إلا أن أكْبر تحطيم يأتيه هؤلاء الحُطمة هو تحطيم الكرامة، كرامة الدّين، وكرامة العلم، وكرامة العدل، وكرامة الحرية، وكرامة الرأي، وكرامة المؤسسات، وكرامة الشعوب، وكرامة الإعلام، وكرامة الغَيْرة على الدين والأعراض والأوطان.

رحِمَ الله عُمر بن الخطاب ] الذي كان يعرف -فضلا من الله تعالى- كيف يصون كرامة الرجل والمرأة، وكرامة المُذْنب المخطئ، وكرامة البيوت والأسر، وكرامة الخَدَم والصغار والضعاف بل وكرامة الحيوان، وكرامة الحاكم والمحكوم.

عن جرير بن عبد الله البجلي : >أن رجلا كان مع أبي موسى الأشعري، وكان ذا صوت ونكاية في العَدُوّ فغنموا مغْنَماً، فأعطاه أبو موسى بعْضَ سَهْمِه، فأبَى أن يقبله إلا جميعا، فجَلَدَه أبو موسى عِشرين سوطاً، وحلَقَهُ. فجمعَ الرجُل شَعَره، ثم ترحّل إلى عُمر ] حتى قَدِم عليه، فقال : >أمَا واللَّهِ لَوْلاَ النّارُ. فقال عمر : صَدَقَ واللَّهِ لَوْلاً النّارُ، ثم قال : يا أمير المومنين إني كُنْتُ ذا صوت ونكاية.. فأخبره بأمره، وقال : ضربني أبو موسى عشرين سوطاً، وحَلقَ رأسي -وهو يَرَى أنّه لا يُقْتَصُّ مِنه- فقال عمر : لأَن يكُونَ النّاسُ كُلُّهُم على صَرَامَةِ هذا أحَبَّ إلَيّ من جَمِيع ما أفَاءَ الله علَيْنا، فكتب عمر إلى أبي موسى : سَلامٌ عليك، أمّا بعد، فإنّ فلاَناً أخْبَرَنِي بكَذَا وكَذَا، فإن كنتَ فعلتَ ذلك في ملإٍ من الناس فعزمْتُ عليك لمَا قعدتَ له في ملإ من الناس حتى يقْتَصَّ منك. وإن كنتَ فعلتَ ذلك في خَلاَءٍ من الناس فاقْعُدْ لَهُ في خلاءٍ من الناس حتى يقْتَصَّ منْك.

فقدم الرجل فقالوا له >اعْفُ عنْهُ< فقال : لا، والله لا أدَعُهُ لأحَدٍ من الناس، فلما قَعَد أبو موسى ليقتصَّ منْه، رَفع الرجُل رأسه إلى السماء ثم قال : >اللَّهُمّ إنِّي قَدْ عَفَوْتُ عنْهُ<(أخرجه البيهقي 50/8).

فهل الرُّعاة الحُطمة يعْملون على :

أ- إحياء كرامة الإنسان وجَعْل جهره بالظلم واستنكاره للمنكر يعْلُو على كل الأصوات.

ب- إحياء كرامة الإنسان بتشجيعه على الوقوف في وجه ظلمة العمال والولاة والقواد والشيوخ والمقدمين والوزراء وأصحاب الأموال والنفوذ.

جـ- إحياء كرامة الإنسان بجعْل مكانته فوق مكانة المال والمناصب والألقاب لأن الإنسان المصُون الكرامة هو محور الصلاح والإصْلاح، وأساس التقدم والازدهار.

وإلى الله المشتكى من الذين أوصلونا إلى أسفل السافلين في سلم المفسدين، فجعلونا أضحوكة بين العالمين سواء كانوا من الرعاة الحُطمة، أو من الشعوب التي استطابت طاعة الفاسدين المفسدين، ورضيت بعصيان رب العالمين، قال  : >يكُون في آخِر الزّمانِ قوْمٌ يحْضُرُونَ السُّلْطَانَ فيَحْكُمُون بغَيْر حُكْمِ اللَّهِ ولا يَنْهَوْنَهُ فعَلَيْهِمْ لعْنَةُ اللَّهِ<(رواه الديلمي).

وعسى أنيُنَوِّر الله عز وجل قلوب القادة والشعوب لتُغَيِّر ما جاء في تقرير منظمة الشفافية العالمية لمحاربة الفساد فتصبح الدول الاسلامية في أعلى سُلَّم الصلاح والإصلاح على عكس السلالم الموضوعة فيها اليوم، وما ذلك على الله تعالى بعزيز.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>