2- مذهب الحداثة والتنكر للعربية


يلخص عميد الوجوديين العرب -في تلك المرحلة ولِزَمَنٍ غير يسير-(1) الدكتور عبد الرحمن بدوي المشهدَ الثقافي الفرنسي خلال هذه الفترة قائلا : “لما غادرنا فرنسا آخر مرة في صيف 1955، كانت ” الوجودية ” على الصورة الشوهاء الزائفة الكاريكاتورية التي اتخذتها الوجودية في فرنسا منذ سنة 1945، لا تزال هي البِدْعَ السائد في الثقافة الفرنسية في المسرح والحياة الفنية والأدب بوجه عام، فلما عدت إلى باريس في فبراير سنة 1967 بعد انقطاع زاد على أحد عشر عاما، وجدت البدع الجديد الذي تلوكه الألسنة ـ في الغالب دون أن تدري عن محتواه شيئا ـ هوالبنيوية، وعامة من كانوا يذكرونها كانوا يربطونها باسم كْلَوْدْ لِيفِي سْتْرَوْسْ، مع أنه لم يكن إلا واحدا من دعاتها، وفي ميدان واحد هوعلم الاجتماع أوعلى وجه التدقيق : الأنتربولوجيا الاجتماعية، لكنها وسائل الإعلام ـ ويسيطر عليها اليهود في فرنسا سيطرة تامة ـ هي التي أوقعت ذلك الوهم في نفوس عامة الناس”(2)، وعن الشعر قال : “ولم تكن حال الشعر في سنة 1967 في فرنسا أفضل، بل كانت بالأحرى أسوأ، ذلك لأن اللامعقول قد غزا ميدان الشعر قبل ميدان المسرح بقرابة ربع قرن على يد أتباع السوريالية : أُنْدْرِي بْرَيْتُونْ، وسُويِنْ وأَرَاجُونْ وبُولْ إِلْوَارْ، وقد تأثروا بحركة ” دَادَا ” وبالتحليل النفسي عند فرويد، ومن هنا استقوا من اللاشعور ومما هوتحت عقلي : الأحلام، الهلوسة، التنويم المغناطيسي”(3)، هذا فضلا عن سيطرة النزعتين المسيحية والإنسانية على الشعر الفرنسي ما بين 1945 و1960، مما جعله يزخر في هذه الفترة بالتغني “بالحرية، والقلق والوحدة أوالتعلق بالدين ومناجاة الله واستلهام الكتاب المقدس”(4).

ولا شك أن هناك تناغما واضحا بين ما كانت تدعوإليه مجلة “شعر”، وما كانت تعج به الساحة الشعرية والأدبية بعامة في فرنسا، خاصة وأن زعيم الحداثيين العرب : أدونيس، شديد التعلق بالسورياليين الفرنسيين ممن أشار إليهم عبد الرحمن بدوي كأندري بريتون ولويس أراغون وبول إلوارْ وسواهم ممن شغف بأشعارهم فترجمها إلى العربية منذ وقت طويل .

فما الذي أسفرت عنه هذه الموجة العاتية التي أطلقها تجمع “شعر”، وظل صداها يتردد إلى الآن رغم توقف مجلته عن الصدور منذ ما يقارب الأربعين عاما ؟ يقول محمد شاكر: “إن هذا اللون الجديد من الأدب الذي روَّج له الأدباء والنقاد ودافعوا عنه ودعوا إليه لأنه الأدب الأكثر تعبيرا عن روح العصر وأشواق الإنسان المعاصر قد انغمس في التصورات اليونانية الوثنية والروح المسيحية والتيارات الفلسفية والمذهبية التي تموج بها الآداب الأوربية قديما وحديثا، وإذا نحن أمام أدب غريب عنّا في تصوراته وأَخْيِلَتِهِ ورؤيته للحياة والإنسان والكون والوجود وعالم الغيب وعالم الشهادة، ولم تعد المسألة كما كانت في ماضي أدبنا الجانح وصفا للعورات وفحشا في القول، وقذفا للمحصنات وإقذاعا في الهجاء وغلوّا في المديح، ووصفا لمجالس الشراب وغزلا بالمذكر مما يعدُّ خروجا عن ضوابط الإسلام، ولكنْ تجاوَزَ ذلك بمراحل كبيرة، فارتد إلى الجذور نفسها يقتلعها من أساسها، ويضع بدلا منها بذورا جديدة لتصورات وعقائد جديدة ما جاء الإسلام إلا ليقضي عليها ويقتلعها من جذورها.

إن هذا الأدب إذا تحدث عن الألوهية والنبوة والعالم الآخر يقدم لك تصورا لا علاقة له بالإسلام من قريب ولا بعيد، وإذا حدثك عن بداية الخلْق أعاد على مسامعك مقولات “سفر التكوين”،وإذا تحدث عن هابيل وقابيل وإبراهيم وإسماعيل وبقية الأنبياء الماضين، فإنما يقدمها لك في إطار رؤية الكتاب المقدس، وفي إطار أسطوري لا حقيقة له، أما الصليب والمسيح والخطيئة والفداء والصلب والخلاص وبقية مفردات العقيدة المسيحيةفهي كثيرة في أدبنا الحديث بمعانيها المسيحية لا بمعانيها اللغوية، وأما الأساطير اليونانية والبابلية  الآشورية والمصرية والفارسية والهندية والصينية، فحدِّثْ ولا حرج .”( 5 )، ومن ثَمَّ فإن هؤلاء الأدباء المحدثين “قطعوا الصلة بين أدبهم وبين مواريثهم الاعتقادية كما هي في الكتاب والسنّة الصحيحة، ولم يروا في القرآن الكريم مصدرا من مصادر الأديب المعاصر لغةً وموضوعاتٍ ومعالجةً، في الوقت الذي ارْتَدُّوا فيه إلى كتب سماوية محرفة أقدم منه ينهلون منه معانيها، ويتمثلونها، ويدمنون قراءتها كالتوراة والإنجيل باعتبارها ميراثا إنسانيا عاما”( 6) .

———–

1 ـ أقول هذا لأنني أحسب أن الرجل قد تاب إن شاء الله تعالى، فأصدر كتابين جليلين يدافع في أحدهما عن القرآن الكريم وفي الآخر عن السنة النبوية الشريفة ضد أباطيل المستشرقين وقد كَتَبْتُ عن الكتاب الأول دراسة نشرت في ست حلقات منجريدة ” ميثاق الرابطة ” التي تصدرها رابطة علماء المغرب ابتداء من العدد : 1005، الجمعة 17 يناير 2003 .

2 ـ سيرة حياتي ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى،بيروت : 2000، الجزء الثاني ص 26 .

3 ـ نفسه، ص34 .

4 ـ نفسه، ص 37 .

5 ـ أباطيل وأسمار، الشيخ محمود محمد شاكر، مطبعة المدني 1972، ص 217 ـ 218 .

6 ـ الأدب الإسلامي ضرورة ، الدكتور أحمد محمد علي الطبعة الأولى 1991 ص 73 .

د.بنعسى بويوزان

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>