من غرائب الواقع التعليمي بالمغرب


ما بال ضمائر القيمين على التعليم بالمغرب لا تتحرك وآذانهم لا تسمع بعد أن ضربوا عليها وقرا؟.

لم نعد الآن نتحدث عن نهضة أو تطوير لميدان التعليم… فتلك أمور سلفت مع الأيام الخوالي، أيام أخلص الناس لله فتنزهت الضمائر وشُدت الهمم وصفا المجتمع من الشوائب.. أيامَ صدَّق الناس شعاراتٍ براقة انبهر بها العامل والموظف وانساق وراءها الآلاف من أبناء الشعب الكادحين، ووثقت بها الطبقات العمالية لتدفع إلى دوائر القرار من تحكموا في صنعه في المال.. والثقافة… والتعليم وغيرها… وتمخضت الشعارات -في التعليم- عن أم الكوارث، فإذا المستويات تتردى وإذا الأقسام تكتظ… وإذا الداخليات تغلق… وإذا الموارد تجف وإذا الأساتذة يتناقصون إذ يتوارى بعضهم في مهمة يتستر عليه قريب أو صديق ويغادر البعض الآخر طوعا ولكن بأي طريقة؟!؟ ولم يبق في جحيم الصفوف سوى جماعة لا وكيل لها إلا منَزِّل الميزان بالقسط.. تبحث عن الطباشير فلا تلقاه… وعن النظافة فتجد الأقسام مزبلة… وعن الإدارة التربوية فلا تجد إلا أشخاصا تفرقت بهم السبل يرون أشكالا من التسيب وألوانا من الانحراف وسوء الأخلاق وضروبا من العري والابتذال، فيقبعون وراء مكاتبهم وَجِلين ليدعوا الأستاذ يواجه مصيره مع شراذم المنحرفين والضالين والمتهاونين… وتأتي ثالثة الأثافي ليصدر القيمون قانونا لإعادة الموقوفين وما أدراك ما الموقوفون!! فتزداد الصفوف اكتظاظا واضطرابا وتزداد الزمرة القليلة الناجية من المتعلمين إحباطا…

وفي مادة اللغة العربية كانت الضربة القاتلة ضربة أريد بها قتل هذه اللغة الشريفة شَرَّ قتلة، فقد تفتقت قرائح الموهوبين أن يجعلوا ساعاتها أربعاً بدل سِتٍّ في التعليم الثانوي الإعدادي، كما أينعت دفاتر التحملات عن شبكات رثة خلِقة لا تكاد تمس بخيط منها حتى يُفتقمعظمها. وخصوصا للموضوع الواحد في الإنشاء أربع حصص في كل حصة يعجن الأستاذ نفس الموضوع على مدى أربعين يوما في عمل قميء لا ينفع ولا يجدي ولا يفتق موهبة ولا ينهض بأسلوب.. ومن طرائف واقع تعليم اللغة العربية في الصف الأول الثانوي الإعدادي أن تأتي مادة التطبيق على القواعد بعد أربعة دروس يكون معها المتعلم قد نسي ما مر به… كما ألغيت في المستويات الثلاثة مادة قائمة بذاتها هي مادة المحفوظات ليُكتفى بتدريس ثلاثة نصوص في الدورة -وهما دورتان- بدل نص في كل أسبوعين ولتقطع آخر الخيوط بين المتعلمين وبين الإبداع الأدبي الجميل تذوقا وحفظا لروائعه… وهكذا بدأنا نسمع تعليقات الأساتذة المتذمرين من جيل جديد من المتعلمين جيل لا يعرف كيف يكون جملة مفيدة إنه جيل الأربع حصص العقيمات في اللغة العربية وكأنها خطة محبوكة مبيتة لاستئصال لغة الضاد وإشاعة التجهيل وغسل الأدمغة والبداية من التلاميذ… لكن لصالح من ولماذا؟ ثم يأتي ذر الرماد فيرفع القيمون شعار الجودة… مع التقشف وشد الحزام!! ولم يفت المواطن الفطِنُ ما في الأمر من خداع فشرع الناس يقتطعون من أرزاقهم وأقواتهم ليدفعوا بأبنائهم إلى المدارس الخاصة هربا من جحيم هذا الواقع المتردي. فصدق المثل : “مصائب قوم عند قوم فوائد”.

وأغرب الغرائب أن يُكلَّف الحبيسون كرها من الأساتذة -بعد المغادرين طوعا- بتدريس ستة صفوف في كل صف ما يناهز الأربعين تلميذا وأن يعلن المسؤولون عن قرار إعادة الانتشار فلا ينتشر إلا المغلوبون والمسحوقون منهم… أما المدعومون بسلطان فيقبعون في أماكنهم مُنَعَّمِين معزَّزي المنزلة. ومن غرائب التعليم أيضا أن تُتَجاوَزَ في بعض المدن مذكرة وزارية منظِّمة لتوزيع جداول الحصص بين الأساتذة فتتفتق القرائح عن قرارات تشغيل أساتذة اللغة العربية وأساتذة الفرنسية أربع أمسيات في مقابل أن يشتغل أساتذة الرياضيات وبعض المواد الجانبية أربع صبيحات… وكأنما رأوا أن هذه الأخيرة تُدْرك بالعقل والعقل لا يشتغل إلا صباحا بينما الأولى تدرك بالبطن!! ولذلك لا خيرَ أن تُدَرَّسَ مادتان كالقواعد والتعبير في الأماسي ليكتمل وأد لغة القرآن…

إننا أمة ذات موارد عظيمة… ومواردنا ثرية لو يُحافَظ عليها، فأين مواردنا لتوسيع المؤسسات وبناء أخرى؟ وأين مواردنا لتشغيل الأساتذة ورفع عدد الحصص وتخفيف الاكتظاظ وتوفير الوسائل البيداغوجية والشروط الضرورية للعمل؟ إن ذلك هو عين الجودة وأحد شروطها، وبدون ذلك فهي جودة جوفاء لا يعرف معناها إلا الأساتذة المكتوون بجحيم الأقسام الستة… إن سياسة الأبراج العاجية لم تعد نافعة إننا نريد للجان التفتيش أن تنزل إلى المؤسسات والإدارات وأن تتعرف عن كثب إلى هذا الواقع المرير الذي لا يمكن أن يفرِّخ الجودة المرجوة.. نريد لأي مسؤول أن يدرس عمليا ستة أقسام. ولو يوما واحدا ليرى حجم الكارثة ومقدار الجودة ودماثة الأخلاق وروعة التنظيم ووفرة النظافة وكلها أعَز من بيض الأنوق.. لقد كانت عملية المغادرة الطوعية الاستفتاء الحقيقي الذي رفض بمقتضاه الكثيرون البقاء الكرهي والذي برهن على تردي الأحوال، ومن العار أن يُستبقى مُدَرِّس مرغما مُحْبَطاً سجينا… فأطلقوا سراحَ الناس نحو ألفِ ألفِ مغادرةٍ طوعية أو صححوا التصحيح اللائق الذي يناسب النهضة الحضارية العالمية الكبرى… ولله الأمر من قبلُ ومن بعدذة.

ذة.أمينة لمريني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>