رحلة التغيير تبدأ من الذات(2)


 

أكمل في هذا المقال ما بدأناه معا في المقال السابق. ولكن قبل ذلك، ما رأيكم في تلخيص يذكرنا بما قرأناه، وليكن ذلك على شكل نقاط مبسطة:

1- تبدأ رحلة التغيير من الذات.

2- الوعي بالذات وأثر سلوكنا على الآخرين يساعدنا على بناء علاقات اجتماعية سليمة.

3- الوعي بالذات هو الأساس نحو تطوير الذكاء الاجتماعي.

4- خصائص الذكاء الاجتماعي ثلاث: قابل للملاحظة؛ قابل للقياس؛ قابل للتطوير.

عزيزي القارئ/عزيزتي القارئة، نحن الآن على استعداد للإبحار في عالم التغيير، بعد أن أدركنا من خلال الاستبيان أن أمامنا مهارات ينبغي العمل على تطويرها وأن الآخرين ليسوا خطاءين إلى الأبد بل لديهم القابلية للتطوير، وأنا أعدكم أن هذه النظرة سوف تضفي على موقفنا من أنفسنا ومن الحياة طابعا إيجابيا جميلا.

عندما يواجه أي إنسان حقيقة جديدة عن نفسه، سواء من خلال مكاشفة ذاتية صريحة أو ملاحظة من الآخرين، يمر بأربع مراحل قبل أن يتقبل الملاحظة ويغير من سلوكه بناء على الحقيقة الجديدة:

>1- الإنكار denial بسبب الصدمة: فالتغيير، سواء كان مفروضا أو ضرورة لا مفر منها، نقابله بالإنكار بأن شيئا تعودنا عليه ينبغي أن يتغير، وغالبا ما نصر على السلوك الذي تعودنا عليه أو أسلوب العمل الذي مارسناه منذ سنين، لأنه يشكل مركز الراحة عندنا comfort zone، ولأننا لم يصارحنا أحد أبدا أننا مثلا نقاطعهم أثناء الكلام، أو أننا لا نلتزم بالمواعيد، أو لا نراعي مشاعرهم أمام الآخرين في العمل مما يسبب لهم الحرج. فسكوت الآخرين عن مكاشفتنا يزيد في اعتقادنا بأننا على صواب ويزيد من درجة الإنكار عندما نعلم الحقيقة. فمن الذكاء الاجتماعي إذا أن نكاشف الآخرين في الوقت المناسب والأسلوب المناسب لأننا لو تأخرنا كثيرا فلا ينبغي أن نستغرب إذا قابلونا بالإنكار. ومن الذكاء الاجتماعي كذلك أن نعلم أن الغيبة، بدلا من المكاشفة، لا تساعد الشخص الآخر على التغيير بل تزيده تمسكا ومكابرة عندما يعلم ما قيل عنه من خلال النمامين، ولم نسمع عن نمام أمين ينقل الخبر كما هو، بل يزيد فيه ليغرق في البعد عن الحقيقة. وقمة الذكاء الاجتماعي الذي ينشده الإسلام أن يتعامل الواحد منا مع المصارحة وملاحظات الآخرين، أو الخبر المفاجئ، بالقبول والتحمل والصبر عند الصدمة الأولى كما ورد في الحديث.

>2-  المقاومة resistance: تبدأ مرحلة الإنكار في التبدد قليلا مع مرور الوقت، وندرك أن الواقع من حولنا بدأ يتغير غير أننا نقاوم الوضع الجديد، ونحاول أن نستمر فيه دون جدوى. فإذا قال لي زميل مخلص في العمل مثلا أن أفكاري غير واضحة وغير مرتبة كلما عرضت مشروعا في اجتماع، فإني أرد بالإنكار أولا ثم أبدأ في المقاومة مستشهدا بعشرات الأمثلة عن المشاريع التي عرضتها ولاقت قبول المجتمعين. وكذلك إذا قدمت النصح لجارك بأنه لا يحافظ على الصلاة في الجماعة، فغالبا ما يقاوم ذلك، وطبعا في هذا الزمان قد تعتبر هذه النصيحة تدخلا في الحريات الشخصية للآخرين. وفي سلوك الرسول مع قومه المنكرين للرسالة خير مثال على حسن التعامل مع مرحلة الصدمة التي ترتبط غالبا بحالة الإنكار فكان يقول: “اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.” فالخوف من المجهول شيء طبيعي عند الإنسان، فإذا حصل العلم زال الخوف، وقلت درجة الإنكار والمقاومة. وإذا كان الإنكار شعورا داخليا يصل في بعض الأحيان إلى حالة نفسية تحتاج إلى العلاج، فإن مرحلة المقاومة تظهر على السلوك مثل عبارات الغضب أو الحزن وانعدام النوم ونقص في المناعة، والناس في ذلك درجات. وفي شعوبنا العربية خاصة قد تأخذ المقاومة شكلا من أشكال الصراع الشخصي بين الناصح والمنصوح، لأننا غالبا لا نميز بين الموضوعي والذاتي، فإذا قال المدير للموظف أن عليه أن يحسن من أدائه وأن يلتزم بقواعد السلوك في العمل، قد يقاوم الموظف ويعتبر أن المدير يقصده شخصيا وأنه يتغاضى عن الموظفين الآخرين الذين تربطهم به علاقات خاصة. وقد يكون ذلك صحيحا لكنه غالبا ما يستخدم ذريعة لتبرير التقصير في أداء العمل بإتقان.

>3- الاستكشاف exploration: عندما ندرك أن عدم الأخذ بملاحظات الآخرين لن يغير نظرتهم عنا ولن يفيدنا في شيء، أو أن رفضنا لما أدركناه عن أنفسنا، من خلال الاستبيان الذي رأيناه أو أي اختبار سيكولوجي للتقويم الذاتي، لن يغير في الأمر شيئاً، نبدأ في استكشاف الوضع الجديد ونتلمس خصائصه. وهنا تبدأ الخطوات الأولى لمرحلة التغيير الحقيقي لأننا ننتقل من التفكير في الوضع القديم وهو الماضي إلى التفكير في الوضع الجديد وما سيأتي به وهو المستقبل. وأوضح مثال على ذلك، الموظف الذي يُنقل من مكان إلى آخر، أو يفرض في المؤسسةالتي يعمل بها استخدام نظام معلوماتي جديد مثلا يقتضي تغيير أساليب العمل وبعض الإجراءات والسياسات الداخلية، فهو في البداية يحاول إنكار واقع يحتم عليه استخدام هذا النظام الجديد، ثم ينتقل إلى مرحلة المقاومة حيث يبدأ في التشكيك في مدى فاعلية النظام الجديد وفائدته، ورأيتُ في بعض الحالات تكوُّن تكتلات داخل المؤسسة الواحدة تجمعُ جهودها لنقض مشروع جديد أو محاولة لتغيير استراتيجية المؤسسة، وهذه المقاومة الجماعية يصعب التغلب عليها لأنها تخلق مع مرور الزمن ثقافة خاصة بالمؤسسة يتوارثها جيل بعد جيل. فالمدير الذكي اجتماعيا يساعد الموظف على الوصول إلى مرحلة الاستكشاف بسرعة، وكذلك الداعية في الحي لا ينفر من الإنكار أو المقاومة فيقابل ذلك بالصبر الجميل والحلم الرحيم، لأن ذكاءه الاجتماعي يساعده على إدراك ما يمر به الآخرون، ويعلم أن مرحلة الاستكشاف هي ما يهدف إليه. ومن الواضحأن معضلة المنشغلين في حقل الدعوة إلى الله تكمن، من بين أمور أخرى، في عدم تفهم مكنون الطبيعة البشرية ومراعاة لموقف الآخر وما يمر به من إنكار لواقع أو فكر جديد وما يرتبط بذلك من التخلي عن دائرة الراحة التي ألفها لعدة سنين، ثم المقاومة كأنه يدافع عن هويته ووجوده. ولعل في قصة إسلام سيدنا عمر خير مثال على ذلك، فقد واجه الدين الجديد بالإنكار والحرب والتهديد بقتل صاحب الرسالة، لكن هداية الله قادته أولا إلى سماع القرآن يتلى، فبدأ يستكشف، ثم آمن فأصبحت قوته في الجاهلية قوة في الإسلام. والمعضلة الأخرى هي هذه الخلافات العجيبة بين المنشغلين في حقل الدعوة، ومرَدُّها إلى رغبة كل فريق أن يجر الفريق الآخر إلى دائرته، ويستغرب كل واحد مقاومة الآخر لأفكاره وطروحاته وهي في نظره الحق والصواب، ولو عمل الجميع على تفهم مواقف الآخر وطرح الأسئلة الذكية لتمكن الجميع من الوصول إلى الأرضية المشتركة والتعايش، والأهم من هذا كله أن يتعهد كل واحد بتفهم الأسباب وراء مقاومة الآخر، فبدلا من القطيعة والتجريح، نعمل على مساعدة بعضنا لكي نصل إلى مرحلة الاستكشاف، فلو جمعنا ما نتفق عليه وطرحنا جانبا ما نختلف فيه، لاستطعنا الاستمرار كفريق واحد هدفه تطوير المجتمع والرقي به إلى النمو والاستقرار.

>4- الالتزام commitment: وهذه مرحلة النضج النفسي والاجتماعي وتغير السلوك إلى نمط جديد، يسخر الطاقات ويفرغها حيث تؤتي أكلها، بل يصبح الطريق واضحا. فيبدأ الموظف مثلا في مراعاة السلوك الجديد وقد يسأل رئيسه عن رأيه فيه، فيزداد الذكاء الاجتماعي نموا. ومن فوائد الالتزام بالسلوك الجديد إمكانية تقبل ملاحظات جديدة بسهولة ويسر، لأن الموظف جرب معاناة الإنكار والمقاومة، فيصبح مستعدا لتجاوز المراحل ويبدأ فورا باستكشاف الوضع الجديد والالتزام به. والمدير الذكي اجتماعيا قادر علىخلق ثقافة إيجابية داخل المؤسسة، يصبح فيها التناصح وتبادل الملاحظات feedback أمرا مألوفا، لا يستنكره أحد. بل إن المؤسسات الناجحة اليوم تقوم إدارة الموارد البشرية فيها على نظام متماسك لتقويم الأداء، تنتج عنه بيئة عمل تشجع التناصح وتقديم الملاحظات بأسلوب منظم ومتزن. والحديث الذي يصف المؤمن بأنه مرآة لأخيه يؤسس في الحقيقة لبناء مؤسسات يتمتع أفرادها بدرجة عالية من الذكاء الاجتماعي، وكلما كانت المرآة نظيفة صافية، كانت الصورة أصدق وأجمل ومحببة لنفس المتلقي، والصفاء هنا هو الدقة في تقديم الملاحظات والإخلاص في النصح. فالتوبة من جهة تجعل كل واحد قابلا للتطوير، ومفهوم المرآة من جهة أخرى يشجع كل واحد على إسداء النصح والملاحظة تحقيقا لهذا التطوير.

ومعرفة هذه المراحل الأربع يساعدنا في أمرين. الأول: أن نرحم أنفسنا فلا نيأس وندرك أن تغيير الذات يمر بمراحل، فالبذور لا تظهر ثمارها إلا بعد حين. والثاني: أن نصبح أكثر تفهما للآخرين في تقلبهم عبر مراحل التغيير الذاتي، فيكون موقفنا الإنصات بصبر في مرحلة الإنكار والنصح بحلم في مرحلة المقاومة والأخذ باليد في مرحلة الاستكشاف والدعم في مرحلة الالتزام.

يبدو عزيزي القارئ/عزيزتي القارئة أن الآخرين في حاجة إلينا أكثر مما نتصور، وأن كثيرا من إخواننا وأخواتنا من حولنا يسير في درب تغيير الذات ولا يستطيع الخروج من مأزق الإنكار أو المقاومة، وإذا وصل إلى مرحلة الاستكشاف لا يرقى إلى مرحلة الالتزام. فعلينا أن نعقد عقدا مع أنفسنا لكي يتجسد فينا سلوك الذكاء الاجتماعي. وهذا نموذج لعقد نقرأه ونوقعه ونعود إليه كل حين:

“أنا ………(الاسم)……… ألتزم بتغيير حياتي. إنني أدرك أن الطريق ليس سهلا لكن الرحلة تستحق التجربة والمعاناة، وأنني سوف أضطر إلى تغيير بعض سلوكياتي وأراجع افتراضاتي وقناعاتي، وأضع لنفسي أهدافا نبيلة وكبيرة. أعلم كذلك أن تغيير ذاتي ليس مجرد اختيار شخصي بل هو واجب اجتماعي لأن سلوكي يؤثر على الآخرين. كما ألتزم بتفهم الآخرين عندما يمرون بمراحل تغيير الذات وأن أكون مرآة لهم. كما ألتزم ببذل قصارى جهدي لتنفيذ ما تعهدت به الآن. وأني سأخصص …. ساعة في اليوم/الأسبوع لذلك، وفي أثناء كل ذلك، سوف أكون بنفسي رحيما فأحول الرحلة إلى تجربة ممتعة ولا أستعجل النتائج وبالله التوفيق.”

————-

 

د.فؤاد ميموني

البنك الاسلامي للتنمية -جدة-السعودية.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>