منهاج التزكية في الإسلام(*)


أولا :  معنى التزكية

لغة : الإصلاح والتطهير والنماء، وزكاة المال تطهيره وإنماؤه وتثميره.

اصطلاحا :

- الطبري : تطهير الناس من الشرك وعبادة الأوثان وتنميتهم وتكثيرهم بطاعة الله.

- ابن تيمية : تربية القلب وتنميته بالكمال والصلاح، وذلك بحصول ما ينفعه ودفع ما يضره.

ملاحظات :

1- ركزت التعريفات على الأحشاء والمشاعر النفسية دون الثقافة الخارجية التي تشكل البيئة العامة التي توجه إنجازات الأمة وتكون نشاطاتها.

2-ركزت على المظهر الشعائري للعبادة دون المظهر الكوني.

3- حصرت المظهر الاجتماعي في أخلاق الفرد بعيدا عن شبكة العلاقة الاجتماعية وعلاقات الحاكم بالمحكوم، وما ينتج عنها من علاقات في ميدان الحكم والإدارة والسياسة والاقتصاد وغيرها.

غير أن التوجيهات التي رسمت الإطار العام لمناهج التزكية في القرآن الكريم والحديث الشريف تشير إلى أن التزكية عملية شاملة شمول الحياة نفسها، لذلك يمكن أن نعرف التزكية بأنها : “عملية تطهير وتنمية شاملين هدفها استبعاد العناصر الموهنة لإنسانية الإنسان وما ينتج عن هذا الوهن من فساد وتخلف وخسران، وتنمية كاملة للعناصر المحققة لإنسانية الإنسان وما ينتج عن هذه التنمية من صلاح وتقدم وفلاح في حياة الأفراد والجماعات”.

فهي نوعان :

تزكية معنوية : ميدانها المعتقدات والقيم والثقافة.

وتزكية مادية : مادتها النظم والتطبيقات.

ثانيا : أهداف منهج التزكية

يمكن الاقتصار على ثلاثة أهداف كبرى هي :

>- الهدف الأول : تزكية إنسان التربية الإسلامية من مرضي “الطغيان” و”الاستضعاف” وتنمية حالة “الوسطية” التي تمثل العافية والصحة النفسية والسلوكية.

- الطغيان مرض نفسي يصيب (النخبة القوية) فتطغى وتجاوز رتبتها الإنسانية إلى منزلة (التأله) أي ادعاء ملكية “الأشياء” والتصرف بمصائر “الأشخاص”. وهي الحالة التي أشار إليها القرآن في مثل قوله تعالى : {اذهب إلى فرعون إنه طغى فقل هل لك إلى أن تزكى}(النازعات : 17/18).

- أما الاستضعاف فهو أيضا مرض نفسي يصيب (الأكثرية) فيفقدها إنسانيتها ويحيلها إلى قطعان بشرية مدجنة لا تملك شيئا ولا تشارك في تقرير مصيرها ومستقبلها. وهي الحالة التي عناها القرآن بقوله : {إن الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم، قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها}(النساء : 97). وقوله تعالى : {وقالوا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا}(الأحزاب : 67).

وأما الوسطية فهي العودة بكل من الطغاة والمستضعفين إلى حالة العافية التي تجسدها طاعة الطرفين لله، وإفراده بالملكية والطاعة والتصريف في مظاهر الحياة الدينية والاجتماعية والكونية، ومحور هذه الوسطية هو الاسترشاد بقيم (العدل) وما يتفرع عنه من قيم تشيع الحريةوالصلاح والتقدم. وذلك معنى قوله تعالى : {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}(البقرة : 143).

أي زكيناكم حتى صرتم أمة عادلة معافاة من مرض الطغيان في قيادتكم، ومرض الاستضعاف في جماهيركم، الأمر الذي أهلكم للدعوة إلى المعروف والنهي عن المنكر وشهود مدى تطبيق الناس ذلك.

>- الهدف الثاني : تزكية ثقافة الأمة الإسلامية من مظاهر الطغيان والاستضعاف التي تفرز التطبيقات الموهنة في النظم والإدارات والأفكار الجالبة للتخلف والضعف ثم استبدالها بمظاهر العدل (الوسطية) التي تمنح الأمة العافية، وتؤهلها للقيام بمسؤولياتها المتجددة بتجدد الخلق في الزمان والمكان، وهذا ما يوجه إليه قوله تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}(الرعد : 11).

>- الهدف الثالث : تنمية قيم الأخوة الإنسانية التي جاءت بها الرسالة الإسلامية على أبواب العالمية، وعصر قرية الكرة الأرضية بغية صهر الولاءات الأسرية والقومية والعرقية في بوتقة الولاء الإيماني الذي يضع “أشياء” الإقليم و”أشخاص” الأقوام في خدمة “أفكار” الرسالة الإسلامية في الصلاح والإصلاح.

ثالثا : محتوى منهاج التزكية

أ – تزكية النفس :

>1- تزكية القدرات العقلية : تتعرض للحالات التي تتعرض لها القدرات الجسدية من العافية والمرض والموت.

تصح بالعلم والعمل، وتمرض بالوهم وانحرافه، وتموت بالجهل المطبق.

والقلب يتقلب : يؤمن ويكفر، يرسل الأعمال القلبية إلى الجسم ليترجمها إلى ممارسات حسية، قال رسول الله  : “ألا وإن في الجسد مضغة…” الحديث.

>2- تزكية القدرات الإرادية : توجيه الغرائز والدوافع (دافع الحب، والشهوة، والخوف، والغضب…) نحو تحقيق أهدافها لتحقيق العفة (حالة العافية) والحذر من الوقوع في الفاحشة (حالة المرض).

>3- تزكية القدرات السمعية والبصرية : تزكية قنواتالمعرفة والإدراك إذ يقول الله تعالى : {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا}.(الإسراء : 36).

والقرآن يندد كثيرا بالذين لا يحسنون استعمال قدراتهم السمعية والبصرية، لأنها بوابة إلى الشر، إذا لم يحسن استعمالها، {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير}(الملك).

>4- تزكية الجسم : يقال عن تزكية الجسم ما قيل في تزكية القدرات العقلية، وتحصل تنمية الجسم بتحقيق هدفين اثنين :

الأول : إباحة كل ما أحله الله للإنسان من الطيب النافع الذي يوفر حالة الصحة والعافية للجسم والنوع البشري.

الثاني : منع تناول كل ما حرمه الله على الإنسان والذي حرمه الله هو الخبيث الضار الذي يهدد نمو الجسم وعافيته ويتسبب في الأخطار التي تهدد بقاء النوع البشري.

ب- تزكية البيئة العامة :

المقصود بها : البيئة الطبيعية وما يجري فيها من نشاطات إنسانية تحتوي على مجموعة الاعتقادات والأعراف والتقاليد والعادات والنظم والسياسات وشبكة العلاقات الاجتماعية والمؤسسات التي تفرزها حضارة ما، وترعاها عبر الزمان والمكان.

- أسباب الاهتمام بتزكية البيئة العامة :

1- أثر البيئة العامة في صلاح سلوك الأفراد أو فساده لأن السلوك ثمرة التفاعل بين الإنسان والبيئة العامة المحيطة به في لحظة معينة. قال رسول الله  : “ما من مولود إلا ويولد على الفطرة…” الحديث.

2- ضعف النفس البشرية بشكل عام أمام مؤثرات البيئة المحيطة بها لأن النفس فيها ميل للراحة والتثاقل عن مواجهة المشكلات والتردد أمام التحديات. {خلق الإنسان ضعيفا}(النساء : 28). قال تعالى : { إنا عرضنا الأمانة…}(الأحزاب :72).

3- الإنسان يشبع سلم حاجاته المختلفة من البيئة الطبيعية.

الحاجات الأساسية :

في الغذاء والكساء والمأوى.

في الأمن والانتماء والحب والاحترام.

في الحصول على إجابات عن أسئلة تتعلق بالنشأة والحياة والمصير.

في تحقيق حاجاته في الإنجاز والإبداع المؤدية إلى تحقيق الذات.

لا تكون تزكية الفرد فاعلة نافعة إلا إذا تكاملت مع تزكية البيئة العامة، وعناصرها الأساسية هي :

- تزكية البيئة الدينية من الشرك والخرافات والشعوذة والبدع والضلالات.

- تزكية البيئة المعرفية من تيارات الإلحاد والغزو الفكري الدخيل على هوية الأمة وأصالة دينها.

- تزكية البيئة السياسية من الحكم بغير ما أنزل الله، وتدبير الشأن العام انطلاقا من السياسة الشرعية.

- تزكية البيئة الاجتماعية من الجهل والفقر والمرض والمحسوبية والعنصرية، والانحلال الخلقي.

- تزكية البيئة الطبيعية من التلوث الذي يلوث الماء والهواء والتربة، ومن كل ما يحدث الفساد في الأرض.

- تزكية البيئة الأدبية والفنية في العفن الفني والطرب والغناء والسينما والمسرح والأدب والشعر…

- تزكية البيئة الاقتصادية من الغش والاحتكار والربا والقمار والخمر والمخدرات…

- تزكية الثقافة والتراث عن طريق تمحيصه ونفض الغبار عنه لتعزيز النافع المفيد وتخليصه من المتجاوز الذي لم يعد صالحا لتقادم عهده…

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) مختصر من كتاب منهاج التربية الإسلامية لماجد عرسان الكيلاني/أعده للنشر : ذ. محمد بن شنوف

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>