في معنى الهداية وأنواعها
{اهدنا الصراط المستقيم}
بعد الوضع الذي عرفناه حيث يضع المسلم نفسه في موضعه أمام الله حين اعترف بتوحيدين : نوحيد ألوهيته (إياك نعبد) ويكافئه (الحمد لله)، وتوحيد ربوبية (إياك نستعين) ويكافئه (رب العالمين)… وهذا هو بيت القصيد والمطلوب. ومعناه أن المؤمن يطلب حاجة هو في حاجة إليها، والذي يطلبه المؤمن هو الهداية باعتبارها أهم شيء يمكن أن يطلبه الإنسان ويتمناه.
معنى الهداية
والهداية واردة كثيراً في القرآن وبعضُها مطلوب، وبعضها محقق في حياة الإنسان.
والهداية : هي الدلالة والإرشاد إلى مقصود بلطف. بمعنى أن الله عز وجل يوجه الإنسان خاصة والكائنات عامة إلى مقاصدهم دون عنف ولا غلظة.
والله عز وجل إذ يهدي الناس، معناه أنه سبحانه يُيَسِّرُ لهم الأسباب والشروط التي تأخذهم إلى الهداية أخذا دون شعور : فقد يهيء الله للإنسان صديقا خيرا، وأبا صالحا أو مناسبة صالحة أو أستاذا بارعا، أو مجلس خير وعلم…
إن الهداية قد تأتي بقوة فتكون سبيلا للنفاق مثل ما يقع عند البشر، مع أن هذا البشر لا يقدر أن يهدي أحداً إلا بالدعاء وتعريف الطرق دون سائر أنواع الهدايات. ومن ذلك مثلا ما يكون بأسلوب الضرب مع أن هذا الأسلوب لا يصلح إلا في التضييق على الأبدان ولا يصلح في تغيير الأفهام.
والهداية المترددة في كتاب الله لها مستويات، وتحدث العلماء عنها كثيرا، ومن أحسن تقاسيمها أنها إما تكون :
> 1- هداية عامة : “وهي الهداية التي عَمَّ بجنسها كل مكلف من العقل والفطنة والمعارف الضرورية التي أعمَّ منها كل شيء بقَدر فيه حَسْب احتماله كما قال تعالى : {رَبُّنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى}” المعجم الأصفهاني/ص536
فمن المعلوم أن الله عز وجل قسم العالم إلى عوالم مختلفة فمنها عالم الإنسان وعالم الحيوان، فجعل لكل نوع من أفراد هذا العالم نوعا خاصا من الهداية : فلأ فراد الإنسان نوع خاص من الهداية كالفهم والإدراك والاستيعاب. وهي لا تخص المؤمن فقط بل هي متصلة بكل أفراد الإنسان. فالعقل الذي هو مصدر كل هذه الحالات مثلا هداية تعم كل الناس… ولأفراد الحيوان نوع خاص كذلك من الهداية : فقد منح الله عز وجل مثلا بعض الحشرات هداية خاصة، فهداها بخفاء عجيب إلى تكوين حياتها على نمط خاص لا يتأتى لغيرها من الحشرات أو الحيوانات الأخرى. انظر إلى النملة إنها ألهمت حفر بيوت في الأرض تبتدئ في ذلك بإخراج ترابها وتقصد إلى الحَبِّ الذي منه قوتها فتقسمه خشية أن ينبت بنداوة الأرض، فمن خلق هذا في جبلتها إلا الرحمان الرحيم، ثم إذا أصاب الحب بلل أخرجته فنشرته حتى يجف، ثم إنها لا تتخذ البيوت إلا فيما علا من الأرض خوفا من السيل أن يغرقها…
ثم انظر إلى النحل وما ألهمت إليه من العجائب والحكم، فإن الباري سبحانه جعل لها رئيسا تتبعهوتهتدي به فيما تناله من أقواتها، فإن ظهر مع الرئيس الذي تتبعه رئيس آخر من جنسه قتل أحدهما الآخر وذلك لمصلحة ظاهرة وهو خوف الافتراق لأنهما إذا كانا أميرين وسلك كل واحد منهما فجا افترق النحل خلفهما، ثم إنها ألهمت أن ترعى رطوبات من على الأزهار فيستحيل في أجوافها عسلا، فعلم من هذا التسخير ما فيه من مصالح العباد من شراب فيه شفاء للناس كما أخبر سبحانه وتعالى …”.
> 2- هداية الأنبياء : فالعقل يهدي الناس إلى الصواب. لكن قد يخطئ هذا العقل فيُضل، ولذلك جاءت النبوات وهي “الهداية التي جعل للناس بدعائه إياهم على ألسنة الأنبياء وإنزال القرآن ونحو ذلك وهو المقصود بقوله تعالى {وَجَعَلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا}”المعجم الأصفهاني /ص : 536.
وحظ الأمة الإسلامية من هذه الهداية حظ وافر لأن بيدها الكتاب الذي جاء في الصورة الأبْدع والأكمل. ولهذا فإن مشكلة الأمة الإسلامية مشكلة عدمالأخذ بما أُرشِدَت إليه وليس بعدم وجود مرشدين. ولذلك فإن أحسن ما يجب أن يتعامل به القرآن هو أن يُؤخذ كهدي وكدستور تعمل به، فلو كتبنا هذا القرآن بكل أنواع التنميق والتزويق، ولو قرأناه بأجود الطرق ولو تغنينا به بكل السبل، فإننا لا يمكن أن نتقدم ولو خطوة. إن القرآن منهج إسلامي وتربية عظيمة لا يمكن لأثرها أن يظهر إلا بتطبيقه خير تطبيق.
> 3- هداية خاصة : “التوفيق الذي يختص به من اهتدى وهو المعنى بقوله تعالى : {والذين اهتدوا زادهم هدى} وقوله {ومن يؤمن بالله يهد قلبه} المعجم الأصفهاني. ص:536
والقصد بالتوفيق التسديد الإلهي إلى فعل الخير. وهو أن يرشد الله عز وجل العبد وييسر عليه السبل إلى أفضل الأعمال حتى إن العبد يجد نفسه في منتهى النشاط عند إتيان كل فعل خصوصا عندما يتعلق الأمر بالصلاة مثلا : فتعلق قلب المؤمن بالصلاة مع إقامتها على أفضل وجوهها دون عناء ولا ملل هو من توفيق الله عز وجل. ومثال هذا ما يلاحظ عند الرياضي العاشق للجري، فإنه يجد راحته ونشاطه في كثرة العَدْو، وكلما قل ذلك أصابه اليأس والملل مما يدفعه إلى متابعة جريه بنشاط أقوى وأفضل. وهذه الهداية الثالثة هي التي يطلبها العبد في قوله {اهدنا الصراط المستقيم}. وإذا وقعت هذه الهداية لاشك تقع الهداية الرابعة.
> 4- هداية الجنة : وهي هداية أهل الجنة إلى الجنة حيث الاستمتاع بالفضاء الواسع لأنه الخروج الأخير : فالإنسان يخرج من العدم، ويخرج من الرحم، ويخرج من الدنيا إلى القبر، ثم إلى الحشر ثم إلى الجنة وهو الخروج الأخير. فهذه هي التقاسيم التي وضعها العلماء بالنسبة للهداية. “وهذه الهدايات الأربع مترتبة فإن لم تحصل الأولى لا تحصل له الثانية بل لا يصح تكليفه، ومن لم تحصل له الثانية لا تحصل له الثالثة والرابعة، ومن حصل له الرابع فقد حصل به الثلاثُ التي قبلها، ومن حصل له الثالث فقد حصل له اللذان قبله. ثم ينعكس فقد تحصل الأولى ولا يحصل له الثاني ولا يحصل الثالث” المعجم الأصفهاني.ص536.
والهداية التي يمكن الوقوف عليها في هذا الموضع من هذه السورة هي بمعنى البيان والإرشاد. ولذلك فإنها قد تتصل بالإنسان كذلك. فقد يكون الإنسان هاديا. على أنه لا يحق ولا يصح لهذا الإنسان أن يكون متشنجا غضوبا شتاما، بل عليه أن يكون صاحب أناة ولطف وخفاء. وهذا النوع من الناس طينة خاصة. وخير طرق الهداية بالنسبة للإنسان أن يجعلها مؤسسة على مخطط ومنهج لا يشعر به المهدي. وذلك يتطلب إيجاد دافع خاص صالح.
لقد اختُلف في قضية إيصال الخير إلى الناس بالنسبة لهداية الله للبشر : فهل يكتفي بمجرد البيان أم أنه لابد من الإيصال؟ والذي عليه الكثير أنه تتم الهداية بمجرد البيان والإرشاد. ومنهج من قال إنها بالإيصال وإلا فإنها لا تختلف عن الإضلال.(وهذه قضية عقدية). قال الإمام الطاهر بن عاشور رحمه الله.(ج.1ص:188) : “واختلف علماء الكلام في اعتبار قيد الإيصال إلى الخير في حقيقة الهداية : فالجمهور على عدم اعتباره وأنها الدلالة على طريق الوصول سواء حصل الوصول أم لم يحصل وهو قول الأشاعرة وهو الحق. وذهب جماعة منهج الزمخشري إلى أن الهداية هي الدلالة مع الإيصال وإلا لما امتازت عن الضلالة أي حيث كان الله قادرا على أن يوصل من يهديه إلى ما هداه إليه، ومرجع الخلاف إلى اختلافهم في أصل آخر وهو أصل معنى رضى الله ومشيئته وإرادته وأمره : فأصحاب الأشعري اعتبروا الهداية التي هي من متعلق الأمر. والمعتزلة نظروا إلى الهداية التي هي من متعلق التكوين والخلْق، ولا خلاف في أن الهداية مع الوصول هي المطلوبة شرعا من الهادي والمهدي مع أنه قد يحصل الخطأ للهادي وسوء القبول من المهدي..” والمهم أننا نطلب الله الهداية هنا. ونحن إذ نطلب الهداية فذلك يختلف بحسب اختلافأوضاعنا كطالبين، وقد نطلب الهداية حتى في هداية الفطرة وإذ ذاك يكون المعنى : احفظ لنا هذه الهداية وأدمها علينا
وإذا تعلق الأمر مثلا بالمواهب، فإن قلنا اهدنا فيها، فهي بمعنى أتم علينا مواهبنا.
ومن هنا فإن قول الرسول “اهدنا الصراط المستقيم” ليس هو كمعنى قولنا نحن لذلك : فالرسول في قمة الهداية ويطلب الاستمرار وأما نحن فإننا نطلب الهداية أولاً.
والمهم أن الأمر إما أن يستحْدث بعد عدم، أو يتمم وهو موجود. فقوله تعالى : {يا أيها النبي اتق الله} ليس فيه استحداث للتقوى بالنسبة للنبي وإنما هو طلب إتمامه. ثم إننا ونحن نطلب الهداية نركز على اتجاه خاص وهو الصراط المستقيم : والصراط : الطريق وتنطقه العرب بالصاد والسين وعند بعضهم ينطقونه بالزاي. وهو اسم عربي معروف مع أن الإمام السيوطي رحمه الله ذكر في كتابه(المهذب) أنه الطريق بلغة الروم .ص:104
فنحن نسأل الله أن يهدينا الصراط وأي صراط؟ فالصراط أمر حسي ملموس، لكننا نحن نطلب الصراط المعنوي!؟ إن الإنسان يسير في حياته على أحد طريقين إما الهداية أو الضلالة. وحتى يبين الله تعالى للإنسان أنه مسؤول عن هذا يُشبه ذلك السلوك المعنوي بالطريق.
فالإنسان كيفما كان يرتسم في ذهنه أنه يسير في طريق معين. أي أن كل فرد يُشعر ذاته أنها على نهج دون آخر. وكل يظن أو يريد أن يكون منهجه ونهجه هو الأسلم والأنضج عن جهل أو عن قصد.
والإنسان المسلم علمه القرآن أنه على طريق معين. وهو تصور مختلف عن تصور غير المسلم. وكل منهما ينظر للآخر نظرة خاصة. ومع ذلك فإن من المؤكد أن المسلم واضح المنهج والمسلك، والذي يشغله هو أن يعرف إلى أين يوصله منهجه ذلك. ويبقى مثل التائه في طريق فإنه غالبا ما ينتهي إلى السؤال عن نهاية الطريق ومقصده.
د.مصطفى بمحمزة