تفسير سورة الفاتحة


حضور الغيب وعدم إلغاء الأسباب المـادية والسنن الكونية

{إياك نستعين}

هذا اعتراف آخر : إننا لا نستعين بغيرك.

والاستعانة : طلب العون “والعون والإعانة تسهيل فعل شيء يشُق ويعسُر على المستعين وحده”(التحرير والتنوير ج 1ص 184).

وفي هذا المقطع إقرار بالاستعانة الإلهية. وفي هذا الإقرار إشكال : فالإنسان يلتزم بأنه لا يستعين إلا بالله. لكننا من واقع الأمر وحتى في النصوص الشرعية نجد أنفسنا مدعوين إلى أن نستعين بغيرنا من الناس؟ إن الدنيا مؤسسة على تبادل الخدمات، وإن الله خلق البشر مختلفين ومفتقرين. فالإنسان دائم العون فإما أنه معين أو مستعين. والقرآن الكريم يدعو إلى التعاون {وتعاونوا على البر والتقوى} والنص هنا فيه إقرار بالاستعانة بالله وحده. وهذا هو الإشكال.

وتوضيحه : إن قولنا {إياك نستعين} في هذا الموضع من فاتحة الكتاب أمر آخر. ذلك أن الله تعالى رتب هذه الحياة الدنياعلى أسباب ملاحظة وأسباب خفية. فالملاحظة هي الأسباب العادية (فمثلا لابد على الفلاح أن يباشر أسبابا ليزرع حتى ينتج) ولكن قد تتأثر هذه الأسباب بآفات سماوية فيتلف كل شيء. وهذه هي الأسباب الخفية. إن الأسباب الخفية هي الضامن للأسباب الملاحظة. إن الإنسان عندما يعجز عن مواجهة هذه الأسباب الخفية يلجأ لشركاء ظنا منه أنهم قادرون على الإعانة. وغالبا ما يلجأ هؤلاء المغفلون إلى الآخر…. وهذا خطأ يفسد عقيدة الإنسان. “إن الاستعانة الإلهية هي طلب المعونة على ما لا قِبل للبشر بالإعانة عليه ولا قبل للمستعين بتحصيله بمفرده، ولذلك فهي شعور بأن المستعين يصرف مقدرته لتحصيل الفعل ويطلب من الله العون عليه بتيسير ما لا قِبل لقدرة المستعين على تحصيله بمفرده، فهذه هي المعونة شرعا وقد فسرها العلماء بأنها هي خَلْق ما به تمام الفعل أو تيْسيرُه” (التحرير والتنوير ج 1ص 184).

إن الأسباب الخفية يُتوجه فيها إلى الله عز وجل. والتوجه إلى الله تعالى يكون بعد إتيان كل الأسباب الظاهرة. فإياك نستعين معناها : إياك نستعين في تدبير ما وراء الأسباب.

إن الاستعانة بغير الله في طلب الأسباب الخفية شرك خطير.

وقد مثل بعض العلماء لهذا الأمر الذي هو الاشتغال بالأسباب ونسيان مسبب الأسباب بسَيّدٍ مَالكٍ لعبيد اختص بعض عبيده بمائدة يغذيهم صباح مساء. ولكنه لا يباشر ذلك هو نفسه بل يكلف لذلك أناساً آخرين من العبيد. فإذا طال الزمن بهؤلاء تناسوا صاحب الرزق الحقيقي وتعلقوا بأولئك العبيد الذين يخدُمونهم فيحترمونهم ويمجدونهم.. فهذه غفلة..

فنحن لنا أسباب مباشرة لا يحق أن تنسينا المسبب المباشر وهو الله عز وجل. والذي ننتبه إليه هنا هو أن الاستعانة إنما تكون من جهتين :

- الاستعانة بالأسباب الخارجية الظاهرة والتي تتم بين الناس والوسائل  المتخذة لذلك.

ثم الاستعانة بالله عز وجل وهي الاستعانة المطلقة التي تتصل بما وراء الأسباب.

إن هذا الاعتراف {إياك نستعين} يفيد المسلمين إفادة عظيمة في إصلاح كثير من شؤونهم الدنيوية والأخروية : ذلك أن المؤمن إذا قال إننا نستعين بالله فلا يمكن أن تتصور هذه الاستعانة إلا في الذي يقوم بعمل مع إعلان العجز وعدم القدرة على القيام به على الوجه الأكمل. فالمؤمنون يعملون ولكنهم يستعينون. فلو فرضنا أن إنسانا ما كان يجر عربة وشقت عليه فإنه لا بد أن يستعين بشخص آخر، وحينذاك لا بأس من الطلب لأنه في موضعه. لكن إذا كان الرجل نائما تحت العربة وطلب طلبه فالاستجابة له ليست في موضعها. فلاشك إذن أن كل من يستعين بالله يقوم بعمل. فإياك نستعين لا تقال إلا في حالة عمل ولا تقال في حالة كسل. وهذا يدل على أن أمة الإسلام أمة عمل واجتهاد مع طلب السند من الله عز وجل.

إن من يقول إن المؤمنين يؤمنون باليوم الآخر مما يؤدي إلى تعطل قوانين الطبيعة مخطئ خاطئ : إن الأمة الإسلامية تأخذ دائما بالقوة البشرية دون جهل أو تجاهل الدعم الإلهي. ولذلك كانت دائما منتصرة، وما احتُقرت هذه الأمة وهُزمت إلا عندما تخلت عن هذه القاعدة، ولو أخذنا حروب المسلمين قديما كنموذج لذلك لوجدنا أن الحرب الإسلامية كانت تقوم دائما على أساس القوة المادية ولو كانت ضئيلة، والقوة الروحية التي يكون فيها السند الإلهي. وما انتصر المسلمون يوم بدر سوى لأنهم أتَوْا كل هذه الأسباب.

وهناك فائدة أخرى في {إياك نستعين} : إن الأمة الإسلامية تؤمن بالغيب، ولكنها لا تؤمن بالدجل والخرافات الروحية. فهي أمة تأتي الأسباب مع رجاء الله سبحانه. وبالمقابل فإن الأمم التي تدعي الحضارة الآن تنغمس في الخرافات بعيداً عن الغيب الشرعي، فشعوبها غارقة في الخوف، بل وإنها تخاف من كل شيء لأنها تستعين بكل شيء غير الله. ومن المسلمين من سار على هذا النهج الخرافيفتجد بعضهم يضع صناديق عند أبواب الأضرحة ليجمع أموال المغفلين من المسلمين.

إن الأمة الإسلامية مدعوة إلى التعاون والاستعانة فرادى وجماعات، وعدم التعاون مؤدٍ لا محالة إلى ظهور الأنانية في الإنسان. ثم إن مهمة الإنسان المسلم خاصة والانسان عامة لا تتم إلا بالاستعانة : فأما المسلمون فاستعانتهم شرعية لها خصوصياتها كما سلف، وأما استعانة غير المسلمين فهي مؤسسة على أساس  المصالح المادية ليس إلا. ومع ذلك فالذي يلاحظ أن الأمم غير المسلمة تقَوَّت بسبب تكتلاتها في مختلف المجالات، ولأجل إبقاء هذه التكتلات حافزا لقوتها فإنها وبفضل سياسة حكوماتها تبحث عن كل ما من شأنه أن يجمعها ولو كان ذلك على حساب غيرها من الأمم وخاصة عندما يتعلق الأمر بالأمة الإسلامية، ولذلك قال أحد الساسة في الأمم الغربية “إن أوربا تبحثُ عن عدو بسبب انتهاء كل ما من شأنه أن يشغلهم” لتبقى فيهم حرارة الحفاظ على التعاون والاجتماع، ولعل عدوهم الذي وجدوه هو الأمة الإسلامية.

إن القول بأن الاستعانة لا تكون إلا بالله دون اتخاذ أسباب قول سقيم، ثم إن التعاون بين الناس هو من قبيل الأمور الآلية التي يجب أن نحسن تسخيرها : فالمزارع مثلا وبفضل آلاته التي  يعتمد عليها في خدمة أرض باعتبارها أسباباً مادية وكذا استعانته بالناس، كل ذلك يكون مساهما في نجاح عمله، ومع ذلك فاستعاناته هذه لا علاقة لها بالشرك بالله. هناك دائما سببان في الاستعانة لأجل قضاء الأمور : سبب مباشر متصل بالخيرات البشرية، وفاعل للأسباب.. الله عز وجل.. المعين الأول والذي لا يقبل أبدا الاستعانة بغير الله كذبح الذبائح لأجل الشرك وفي هذا شرك.

{إياك نستعين} بمعنى : إننا لا نلغي الإعانات المادية والأسباب الكونية. ولهذا يكون الإنسان قد حسنت نيته وقوي إخلاصه بحسن توجهه لله، كما أنه لا شك سيتقن عمله ويجسده.

د.مصطفى بنحمزة

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>